راجت فى مصر فى الفترة الأخيرة بعد الثلاثين من يونيو 2013 مصطلحات من قبيل (صناعة الكراهية)، تدليلا على ظاهرة بث المشاعر العدائية من قبل بعض الفئات السياسية تجاه فئات سياسية أخري. ولئن كان مصطلح «صناعة الكراهية» قد أطلقه باديء ذى بدء فريق «مشترك» من الإسلاميين و(الليبراليين) تنديداً مستحقاً بممارسات بعض المنابر والرموز الإعلامية المصرية بعد 30 يونيو، فإنه يبدو أن «جهة الادعاء» المشترك المذكور تحولت إلى «موضع اتهام محتمل». فكيف ذاك ؟ لقد قام ذلك الفريق ببث نوع من الكراهية خلال الشهور الأخيرة فى أوساط واسعة من الفئات الشبابية، تجاه المؤسسة العسكرية، وخاصة تجاه شخص قائدها العام الحالي، وتم تجسيد الأسطورة أو «الخرافة الوهم» المتعلق بشبح الحكم العسكري، فإذا بها تتلبس لدى معتنقيها مسوح الحقيقة المجسدة. أما الحجج التى يستند إليها «صناع الكراهية الجدد» فأهمها ثلاث : الحجة الأولي، حسب روايتهم، أن ثورة 25 يناير قد ضاعت، وأن المتسبب فى ضياعها هم رجال القوات المسلحة، الذين تولّوا إدارة الدولة عاماً ونصف العام، فى ظل ما سمى بالمجلس العسكري، ثم أطاحوا بحكم الإخوان المسلمين، الذين كانوا قد تولّوا بدوْرهم إدارة الدولة عاماّ كاملاً، لتخلو البلاد مرة أخرى للعسكريين دون شريك. والحق أن حدث الخامس والعشرين من يناير أمكن التعبير عنه بلاغياً بمصطلح (ثورة)، ولذا قلنا ونقول: «ثورة 25 يناير» ولكن إنْ شئنا الدقة العلمية، فإن من الأفضل أن تسمى «انتفاضة ثورية عظمي» لكونها أسقطت نظاماً تسلطياً جبّاراً، ولم تتمكن من إقامة نظام جديد، نظرا لافتقادها المقومات القيادية والعقائدية والتنظيمية اللازمة لذلك . إن الذين يقومون بالصياح فى الآونة الراهنة، نواحاً على نواقص ثورة لم تكتمل، يلقون باللائمة على القوات المسلحة وحدها، وهى الشريك فى النجاح المظفر للانتفاضة العظمي، وتحاول بعض عناصر الشريحة الليبرالية أن تدخل فى (تحالفات سياسية خطرة) مع بعض من الشريحة «المتشددة» فى تيار «الإسلام السياسي» لمواجهة عدو مفترض متجسد بالوهم ، هو ما يسمونه بالعسكر، والقائد العام لهؤلاء العسكر بالذات . أما الحجة الثانية لصنّاع الكراهية الجدد فهى كلمة رددها عدد قليل من الرموز الإعلامية، ولم تصمد زمانا ومكاناً، بأن (ثورة يناير مؤامرة ..) !! وأن هذه المؤامرة قد اشتركت فيها أطراف خارجية فى مقدمتها أمريكا، وأطراف إقليمية فى مقدمتها (حركة حماس ..!)، وأطراف محلية فى مقدمتها نشطاء سياسيون ممولون من منظمات المجتمع المدنى الدولية. ويؤكد صناع الكراهية الجدد سواء كانت صناعتهم خشنة جداً أو ناعمة جداً أن هذه القوْلة أو الفِرْية منتشرة انتشاراً واسعاً وعميقاً، ويلحون على ذلك فى ادعاء فج مبالغ به، فينم عن رغبة فى تجسيد وهْم آخر معلّقين إياه فى (رقبة) القوات المسلحة بالذات. إننا إذ نؤكد الخطأ والخطَل الكامنيْن فى قول من قال بإفك (المؤامرة)، استناداً إلى شذرات متناثرة بل (تافهة فكرياً)، هنا وهناك، فإننا لا نرى فى ذلك مبررا لاتخاذها تكئة لتغذية (صناعة الكراهية الجديدة). الحجة الثالثة لصنّاع أو داعمى الكراهية الجدد هى أن فلول النظام المباركى قد عادوا على أوسع نطاق؛ ويرتبون على ذلك أن النظام السياسى المباركى عاد بالفعل أو سيعود (عن قريب) فى ظل «الوضع الجديد» بعد 30 يونيو. و لا ريب أن فلول النظام المباركى يحاولون العودة بعد الثلاثين من يونيو، على أوسع نطاق . ولكن ليس معنى ذلك أن النظام السياسى المباركى سوف يعود، فقد مضى وانقضى إلى غير رجعة. أما النظام الاقتصادى والاجتماعى السائد فى عصر مبارك، وفى حقبة (السادات مبارك) إجمالاً، فإنه باقٍ لم يمسّه شىء تقريبا، ولن يمسّه شىء إلا باستكمال الثورة ... والثورة الكاملة لم تقع أصلا، وإنما الذى وقع (نصْف ثورة) إذا صح هذا التعبير. والحق أن فلول النظام المباركى قد قاموا بعملية تمهيد إعلامى عريض، تحضيراً لاستعادة بعض من مواقع نفوذهم المفقودة، وسوف يستمرون فى المحاولة خلال الفترة القادمة، وخاصة عبر الانتخابات النيابية المزمعة. ونقول بكل صراحة لمجمل القوى الوطنية فى مصر الآن: لا تتركوا «الوضع الجديد» بعد 30 يونيو، فريسةً لفلول النظام الأسبق، ينفردون به ويقررون بعض شئونه أو مصائره. إن للقوى الوطنية الحقيقية نصيباً كبيراً، وأكثر بكثير مما للآخرين، فى هذا الوضع الجديد، بقواته المسلحة وقيادتها، فلا نجعلهم ينفردون به بأيّ سبيل، وينفّرون منه بكل طريق. إن القوات المسلحة هى «الإرث المشترك» لأبناء الوطن، وقد كان دعمها لمطالب الثورة الشعبية بعد 25 يناير هو الحدث الحاسم، أو أحد الأحداث الحاسمة التى قررت نجاح «الانتفاضة الثورية العظمي». ورغم الأخطاء التى أسهم فيها الجميع بأنصبة مختلفة، فإن الواجب الوطنى يقتضى منا التآلف فى هذا الظرف العصيب، لبناء نظام سياسى جديد. وعلينا أن نبذل أقصى الطاقة لجمع شمل الكل، على قاعدة سواء. فإن لم يكن ذلك ممكنا، فلنمض معاً فى رحلة البناء، وألّا نلتفت إلى الخلف أو إلى الجوانب الطرفية، بشرط أن نمتلك برنامجاً وطنياً واجتماعياً تقدمياً للتغيير .. ساعتها يمكن أن يستمر ويكتمل حدث الثورة بالفعل، ليحقق «نصفه الثاني» حتى لو دفعنا التكلفة غير المستحبة، من ابتعاد آخرين آثروا ألا يشاركوا فى هذه المأثرة أو الملحمة الوطنية العظمى المنتظرة.
أستاذ فى معهد التخطيط القومى بالقاهرة لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى