ما زالت الأوضاع فى مصر تمر بمرحلة انتقالية رغم صدور الدستور الجديد الذى يمثل مرحلة أولى فى مسار تنفيذ خريطة الطريق التى تستكمل خطواتها القادمة بإجراء الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية، لنصبح إزاء مؤسسات دولة منتخبة ومعبرة عن الإرادة الشعبية. حينذاك نكون قد عبرنا أولى خطواتنا نحو استكمال بناء أسس الدولة العصرية التى كانت حُلم ثورة الخامس والعشرين من يناير وموجتها التصحيحة فى الثلاثين من يونيو. ولكن، لا يعنى مرور مصر بتلك المرحلة أن يكون الباب مفتوحا أمام الخارج ليتدخل فى شئونها ويحدد سياستها ويوجه مسئوليها، بل مصر مليئة برجالاتها وقياداتها وشبابها ومواطنيها القادرين على إدارة شئونها دون وصاية من أحد. مناسبة هذا الكلام تأتى ردا على قرار البرلمان الأوروبى الأخير بشأن الأوضاع فى مصر وما تضمنه من مغالطات عديدة، جاء رد وزارة الخارجية المصرية حاسما ورافضا للقرار فى مجمله بسبب ما اعتبرته «تدخلا مرفوضا شكلا وموضوعا» ومصححا لهذه المغالطات. كما تأتى مناسبة هذا الكلام أيضا بسبب ما نشره الاستاذ فهمى هويدى فى مقاله فى جريدة الشروق بتاريخ 9 فبراير 2014 مستعرضا بعض ما جاء فى تقريرين لمنظمة العفو الدولية بشأن اوضاع حقوق الانسان فى مصر، وقد خلص فى مقاله إلى مجموعة من الملاحظات ليس المجال لسردها تفصيلا بقدر اهمية مناقشة بعضها خاصة تلك المتعلقة بما اعتبره اعادة كاملة لعصر مبارك، رافضا كل من يرى ان حركة التاريخ لا يمكن ان ترجع الى الخلف، بل معتبرا ان ما ورد فى هذين التقريرين يمثل ردا على كل من يشكك فى تلك العودة. والحقيقة ان قرار البرلمان الاوروبى وكذلك التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان يجب قراءاتها فى ضوء ملاحظتين مهمتين: الأولى، لا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك ممارسات غير قانونية تُرتكب من جانب بعض رجالات وزارة الداخلية ومنتسبيها، بما يوجب إعادة المطالبة بسرعة هيكلة الوزارة وتصحيح سياستها فى تعاملها مع المواطنين، دون إغفال أن ثمة تحولا ربما يصل إلى مستوى التحسن فى الأداء الشرطى، لكنه ما زال دون المأمول أو المنتظر بعد ثورتين قامتا من أجل تصحيح العلاقة بين الشرطة والشعب، بما يعنى أن يكون النظر دقيقًا فيما حدث من تطور فى الاداء من جانب، ومع الحاجة الى إعادة النظر او إعادة الهيكلة من جديد من جانب آخر. بمعنى أكثر وضوحا إذا كانت هناك ممارسات ما زالت تعكس ثقافة شرطية غير سليمة تمثل بقايا النظام الأسبق والسابق، فإنه من المهم أيضًا أن يُذكر بأن ثمة تغييرا حدث بلا شك فى هذا الأداء وأن المطلوب هو استكماله دون أن يُترك هذا الاستكمال إلى الوزارة بمفردها، بل على جميع المعنيين وفى مقدمتهم مؤسسات ومنظمات حقوق الانسان ان تسهم فى وضع رؤى واجراءات عملية تساعد الجهاز الشرطى على تحسين ادائه، مع الأخذ فى الحسبان ان كثيرا من الدراسات والتقارير التى أُعدت فى هذا الشأن تتحدث فى العموميات والتوصيات دون ان تضع اجراءات محددة وخطوات تفصيلية لمّا يجب عمله فى ضوء التحديات التى يواجهها جهاز الشرطة الآن، فصحيح انه فى مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وُضعت العديد من الدراسات فى هذا الشأن إلا أنه من الصحيح أيضا أن ما تواجهه الشرطة اليوم من ارهاب تمارسه بعض الجماعات تحت مسميات وشعارات متباينة يختلف عن التحديات التى واجهتها آنذاك، أضف إلى ذلك أن خبرة الجهاز الشرطى فى محاربة هذا الارهاب فى التسعينيات من القرن المنصرم لا تساعده فى مواجهة هذا الخطر الآن، نظرا لاختلاف الظروف، فقد أصبح على جهاز الشرطة أن يحقق التوازن فى المعادلة بين مكافحة الإرهاب والضرب بيد من حديد وبين حماية منظومة الحقوق والحريات. الثانية، أنه ليس صحيحا ما يدعيه البعض بأن التاريخ يخلو من المؤامرات، فجميعنا يعلم حجم المؤامرات والمخططات التى ترسم لدول المنطقة برمتها وفى مقدمتها مصر. ومن ثم، ليس من المنطقى أن نتعامل مع كل ما يصدر من الخارج على أنه حقائق موثقة وتقارير مدققة، وإنما يجب ان تكون هناك عقلانية فى قراءة كل ما يأتى منه. مع الاخذ فى الاعتبار ان هذا لا يعنى رفض كل ما يأتى من الخارج حتى لا يفهم البعض اننا ضد التواصل بين الحضارات والتفاعل مع الخارج فى عصر لم يعد ممكنا ان ينغلق الفرد على نفسه، ففى ظل عولمة الاتصالات والشبكات اضحى الجميع متفاعلا ومشاركا ومؤثرا ومتأثرا بالآخر، وهو ما يعنى أن ما يأتى من الخارج يحتاج الى مزيد من التدقيق والتمحيص والقراءة المتأنية والدقيقة، حتى نضع الأمور فى نصابها الصحيح، فإذا كان مقبولا القول إن هناك تجاوزات وقعت فى حق بعض المواطنين بسبب الممارسات اللاقانونية من جانب الجهاز الشرطى، إلا أنه من غير المقبول أن تتحمل هذه الاجهزة المسئولية كاملة تحت مزاعم التضييق على حرية التعبير عن الرأى والتجمع، ففى هذا خلط واضح بين الحق وضماناته التى يكفلها الدستور من جانب، وبين ضوابط ممارسته التى ينظمها القانون دون افراغ الحق من مضمونه من جانب آخر. وعلى سبيل المثال، حينما يكفل الدستور حق التظاهر للجميع فى أية دولة فى العالم، فإن القانون يأتى منظما لكيفية ممارسة هذا الحق بصورة تحقق التوازن بين مضمونه وبين حقوق الآخرين وحق المجتمع ككل، فمن غير المقبول ان تتظاهر امام مستشفى وتمنع دخول المرضى بحجة الحق الدستورى الذى يكفل التظاهر. فإذا كانت الشرطة مسئولة عن كفالة حق المتظاهر فإنها فى الوقت ذاته مسئولة عن حماية حق غير المتظاهر، بل وحماية امن المجتمع بأسره، وهو ما يعنى ان المسئولية هنا ليس مسئولية الجهاز الشرطى بمفرده بل هى مسئولية المتظاهر أيضا من خلال التزامه بنصوص القانون وأحكامه وأن خروجه عنها لا يعنى سوى تطبيق العقوبات الواردة فى ذات القانون على مخالفه، وهذه هى دولة القانون وسيادته. لمزيد من مقالات عماد المهدى