ربما لم يتخيل أكثر المتشائمين فى جهاز الشرطة قبل قيام ثورة 25 يناير أن يتحول هذا اليوم الذى طالما احتفلت به وزارة الداخلية وتزينت فيه طرقات مديريات الأمن وأقسام الشرطة بباقات الورود وبطاقات التهانى، إلى ذكرى سيئة فى نفوس رجال الشرطة الذين مازالوا يبحثون عن الثقة المفقودة لدى المواطن المصرى. فبعد ثلاثة أيام فقط من اندلاع الثورة ومع غروب شمس يوم الجمعة الموافق 28 يناير المعروفة ب «جمعة الغضب» انهارت منظومة الشرطة تماما، وحدث الانفلات الأمنى الذى روعت خلاله شوارع وبيوت مصر من أقصاها إلى أقصاها مع انتشار البلطجية وهروب المساجين وهى الفترة التى مازالت توابعها مستمرة حتى الآن. وفى ظل هذه الظروف الأمنية غير المنضبطة طرحت «أكتوبر» القضية على عدد من الخبراء الأمنيين وقيادات الشرطة السابقين لوضع روشتة الخروج من هذا المأزق الأمنى الذى تشهده مصر.. فماذا قالوا؟ اللواء رفعت عبدالحميد الخبير الأمنى والقيادى السابق فى وزارة الداخلية أكد أن البناء التنظيمى القديم للشرطة والذى بنى على أيدى اللواء حبيب العادلى الوزير الأسبق لا يزال قائما، وبالتالى فإن الأمر يحتم تغيير هذا البناء التنظيمى أولا قبل الشروع فى عملية الهيكلة، لافتا إلى أن هيكلة الجهاز الأمنى ترتبط أولا بضرورة تعيين 6 نواب لوزير الداخلية مقابل إلغاء منصب مساعد الوزير الذى يصل إلى 31درجة وظيفية «غير مهمة أو مؤثرة» خاصة أن هذه الدرجات الوظيفية المحددة لمديرى الأمن والقطاعات تتسبب فى تشتيت خطط الوزير الأمنية، وذلك لمتابعته المباشرة لكافة الأحداث عن طريق الاتصال ب 31 من مساعديه أما عند تعيين 6نواب فقط فإن الوزارة سوف تمنحهم اختصاصات الوزير فى اتخاذ القرارات التى يرونها مناسبة دون إشغال وزير الداخلية بأحداث لا ترقى إلى المهمة المكفولة له فى وضع الخطط الأمنية والتفرغ لمهمته السياسية. ويتابع عبد الحميد أن الخطوة التالية لتعيين نواب هى إلغاء 10 إدارات عامة بالداخلية تتسبب فى نزيف الجهد البشرى لجهاز الشرطة إلى جانب تحميل الدولة ميزانية مالية طائلة دون الحصول على فائدة مباشرة تعمل على الحفاظ على الأمن، موضحا أن الإدارة العامة لشئون رئاسة الجمهورية يجب أن يختص بها الحرس الجمهورى وحده على أن يوزع أفراد الشرطة فى هذه الإدارة على قطاعات الداخلية المختلفة، الأمر ذاته ينطبق على الإدارة العامة لتأمين مجلسى الشعب والشورى والتى تحصل على جهد رجال الشرطة فى مهمة سهلة تستطيع شركات أمن خاصة القيام بها، قائلا «ما فائدة تأسيس إدارة كاملة مهمتها فقط إغلاق وفتح أبواب المجلس أثناء دخول وخروج الأعضاء.. ضابط الشرطة له مهام محددة فى الشارع للحفاظ على أمن المواطن وليس للعمل بوابا فى البرلمان». ويضيف عبد الحميد أن إدارات المسطحات المائية والتموين والتجارة الداخلية والمصنفات الفنية تختص بها وزارات أخرى وتفعيل الضبطية القضائية لمفتش التموين ومنح مأمورى الضرائب اختصاصات التجارة الداخلية إلى جانب المصنفات الفنية، كما أن تخصيص إدارة عامة لتأمين الأندية وقطاع البحوث والاستثمار والفنادق والمجتمعات العمرانية الجديدة يجعل من الشرطة قطاعا خدميا مهمته فقط تأمين الأندية والفنادق والحفاظ على المجتمعات العمرانية الجديدة والتى من السهل أن تختص بها وزارة الإسكان عن طريق تكليف حراسات خاصة أو تعيين رجال أمن بالإسكان مهمتهم تأمين المجتمعات العمرانية والفنادق على أن تتفرغ الشرطة لتأمين العشوائيات والشوارع لأنها بكل تأكيد الأولى بالحراسة والأمن من المجتمعات العمرانية الجديدة، كما أن وزارة القوى العاملة عليها الاختصاص بإدارة تصاريح العمل والجوازات أن يحول أفراد الشرطة فى هذه الإدارات للعمل داخل قطاع الأمن العام. خطوة تالية وضعها عبدالحميد مجملها العمل على رفع الروح المعنوية لأفراد الشرطة خاصة بعد إدانة قيادات الداخلية وتركيز الإعلام على إيجابيات الشرطة دون التطرق حاليا إلى السلبيات التى تم أخذها على الجهاز قبل الثورة إلى جانب محاكمة عاجلة للمخطئين بالداخلية لتبرئة ساحة الآخرين أمام الرأى العام. وأشار الخبير الأمنى إلى ضرورة رفع معاشات الضباط الذين استشهدوا أثناء أداء مهمتهم لأنه ليس من المعقول أن المعاش الشهرى لعائلة شهيد الشرطة لا يتجاوز 280جنيها، الأمر الذى يجعل الشرطى يفكر ألف مرة قبل أن يعرض نفسه للنار لأنه فى حالة استشهاده لن تمنح الحكومة عائلته المعاش المناسب. وتابع الخبير الأمنى أن الاستعانة بخريجى كلية الحقوق ومنحهم أقديمة اعتبارية للاشتغال فى الأمن العام هى من الأمور التى تساعد فى القضاء على البلطجة وإنهاء حالة الانفلات الأمنى. وعن المناهج قال إن العلوم الشرطية التى تدرس لطلاب أكاديمية الأمن لا تحتاج إلى تعديلات لأن أهميتها الحالية تكمن فيما تتضمنه من مواد حقوق الإنسان، مؤكدا أن الأمر يتوقف على شخصية الطالب ومدى استيعابه لأهمية هذه المواد المقننة فى الأساس للوصول إلى درجة تحافظ للمواطن آدميته. ومن ضمن خطوات إعادة هيكلة الجهاز الأمنى فى مصر- بحسب عبدالحميد- هو تعين وزير للداخلية فى الوقت الحالى من خارج الجهاز، مؤكدا أن اختيار قاض لتولى مهمة الوزارة أفضل، لأن تعيين قاض هو أمر مقبول لدى رجال الشرطة. دولة القانون/U/ وقال اللواء نشأت الهلالى المدير السابق لأكاديمية الشرطة إن هناك حلولا عاجلة وأخرى آجله لإعادة الجهاز الأمنى إلى قوته، موضحا أن الحل العاجل يرتبط بثلاثة محاور وإذا ما تم تطبيقها فلن نحتاج إلى إعادة هيكلة كاملة وهى استعادة هيبة القانون والتى تؤدى إلى المحور الثانى وهى الحفاظ على هيبة الشرطة والمؤدية بدورها إلى تفعيل دولة القانون، لافتا إلى أن الخلل الحاصل حاليا متمثل فى غياب المحاور الثلاثة السابقة لأن المسئول عن حماية وتطبيق القانون هو جهاز الشرطة والذى لا يستطيع حاليا الحفاظ على القانون، مما يؤثر على هيبتها وبالتبعية على هيبة الدولة، ومن ثم فلابد من تفعيل مواد الدفاع الشرعى للضابط عن نفسه فى قانون العقوبات مثلما جاء فى المادة 248من قانون العقوبات والتى تعطى الحق لرجل الشرطة باستخدام القوة إذا كان يؤدى عملا مشروعا وعدم تفعيل هذا النص يكمن فى حملات تشويه إعلامية للضباط الذين يقومون بأداء واجبهم بالحفاظ على القانون وعدم الخروج عليه وصار الآن «كل ضابط يخاف على نفسه حينما يجد زملاءه يسجنون وتتم محاكمتهم حينما يؤدون واجبهم». مشيرا إلى أن الإعلام له دور مهم وإيجابى وذلك للتنبيه على كرامة رجل الشرطة والابتعاد عن تذكير المواطنين دائما بالاعتداءات التى كان يمارسها ضباط الشرطة ضد الشارع لأن الداخلية اعتذرت عن ذلك ولابد من توقيف هذه الحملة لأن هناك نوعا من التعمد لإهانة الشرطة. ومن الحلول العاجلة أيضا يضيف الهلالى مساهمة المواطن فى إعادة هيبة الشرطى والحفاظ على كرامته لأن السلطة مكروهة بطبيعتها والشرطة هى الممثل الأصلى لتطبيق السلطة، وبالتالى فإن الخارجين عن القانون مستفيدون من ضياع هيبة المنظومة الأمنية. وعن الحلول الآجلة قال: إنها تتمثل فى إعادة هيكلة إدارات الشرطة وتأهيل كوادر جديدة لقيادتها وتجهيز قيادات أخرى لم تتورط فى أعمال خارجة على القانون لوضع الخطط الأمنية التى تساعد على الحفاظ على امن الشارع المصرى. وعن مناهج الشرطة قال الهلالى: إن الحديث عن عدم مطابقتها للمواصفات التى تحافظ على حقوق الإنسان غير صحيح لأن جميع مواد حقوق الإنسان تدرس بأكاديمية الشرطة رغم أن هناك معارضين لتدريسها بهذا الكم داخل الأكاديمية ويجب الانتظار لكى تؤتى هذه المناهج ثمارها. الثقة فى الشرطة/U/ أما اللواء جمال أبو ذكرى الخبير الأمنى إحدى القيادات السابقة فى جهاز مباحث امن الدولة المنحل، فأكد أن إعادة هيكلة الجهاز الأمنى مرتبطة أولا بإعادة ثقة الشرطة فى المواطن وليس العكس، موضحا أن الشرطى الآن يضع فى اعتباره تعرضه الدائم للإهانات من جانب بعض المواطنين غير المسئولين، وبالتالى يفضل الشرطى عدم النزول إلى الشارع وأداء واجبه لعدم التعرض إلى إهانة كرامته وحينما نستعيد بناء الثقة فإن الشرطى سوف يتحرك فى الشارع بحرية ويعمل على تطبيق القانون بدون خوف من أن تشوه سمعته من الإعلام حينما يعتدى على مواطن خرج على حدود القانون، وتابع ذكرى أن دعم تطبيق الشرطى للقانون يجعل مهمة الجهاز الأمنى فى استعادة الأمان للشارع سهلة ولا تحتاج إلى مدد من القوات المسلحة.. بل تحتاج فقط إلى ضرورة إعادة المحاكمات العسكرية للشرطيين المخالفين لقواعد العمل لأن الداخلية هيئة عسكرية فى شكل مدنى، أما ما يحدث الآن فهو الاكتفاء بالخصم أو لفت النظر للشرطى المخالف للوائح المنظمة لعمل الشرطة بينما الداخلية مؤسسة عسكرية يجب أن يحكمها الانضباط وأن يعاقب أفرادها على التقاعس أو الغياب عن العمل بالمحاكمات العسكرية لردع كل من تسول له نفسه مخالفة لوائح الشرطة. واتهم ذكرى الإعلام بالمساهمة فى هدم جهاز الشرطة عن طريق التحريض المستمر عليه من الشارع والتقليل الدائم من دوره وتذكير المواطن العادى بالتاريخ الأسود لبعض ضباط الداخلية الذين أساءوا، مؤكدا أن الهجوم المستمر على الداخلية يؤثر على الحالة النفسية للشرطة لأن جهاز الشرطة يحتاج الآن إلى حمايته حينما يطبق القانون. من جانبه قال الدكتور محمد معوض المدير الإقليمى لمعهد دراسات الكوراث البريطانى: إن ثورة 25 يناير أظهرت مدى ضخامة الحاجز النفسى بين الشرطة والشعب لأن الجهاز الأمنى ظهر خلال ال 30 عاما الماضية على أنه الحامى لطبقة مجتمع الأغنياء ورجال الأعمال، وبالتالى فإن إعادة الهيكلة السلمية للجهاز الأمنى يرتبط بخطوتين: الأولى إيجاد عامل مساعد محفز للشرطة لدعم الجهاز الأمنى وهذا العامل المساعد يتمثل فى القوات الاحتياطية الخاصة بالجيش عن طريق تعبئة رديف «احتياطى» الشرطة العسكرية وسلاح المشاة وتجنيدهم للعمل بالشرطة داخل إدارات الأمن العام، مؤكدا أن هذا العامل سوف يحد من تغول البلطجية فى الشارع المصرى لأن المنظومة الأمنية كانت تعتمد خلال السنوات الماضية على الخارجين عن القانون للكشف عن قضايا مخدرات إلى جانب استخدامهم فى إرهاب معارضى النظام وتزوير الانتخابات وحينما يحدث انفلات أمنى وتنهار المنظومة الأمنية، كما هو حاصل الآن، فإن البلطجية سوف يخرجون على القانون بالسعى إلى هدم هيبة الشرطة عن طريق الانتقام من الضباط الذين تعاملوا معهم خلال السنوات الماضية أما الاستعانة بأفراد شرطة جدد تابعين فى الأساس للقوات المسلحة فجعل القبض على البلطجية أمرا سهلا ويصعب عقد صفقات بين الشرطة والبلطجية. مؤكدا أن الاستعانة باحتياطى الجيش لا يؤثر على القوة الأساسية بالقوات المسلحة. وتابع معوض أن الخطوة الثانية هى الاستعانة بقيادات الداخلية المحالين إلى المعاش خلال ال 5 سنوات الماضية وتكليفهم برئاسة إدارات الأمن العام والبحث الجنائى لوضع خطة عاجلة لهيكلتها وتخريج أفراد شرطة موائمين مع حالة الثورة وغير ساخطين على الثوار إلى جانب ترقية أمناء الشرطة الحاصلين على كليات الحقوق لدرجة ضباط ، كما يمكن أيضا استنساخ تجربة زكريا محيى الدين وزير الداخلية الأسبق ويقرر المجلس العسكرى تكليف ضباط الاحتياط فى الجيش بتأدية خدمتهم العسكرية داخل جهاز الشرطة فى الفترة الانتقالية الحالية.