جريمة بكل المقاييس تلك التى أعقبت انكسار قوات الأمن المركزى خلال الأيام الأولى لثورة 25 يناير، حين انسحبت قوات الشرطة بشكل مفاجئ من معظم أنحاء الجمهورية لتصبح مصر التى اشتهرت دوما ب"بلد الأمن والأمان" بلا جهاز أمنى، في الوقت الذى انتشر فيه البلطجية والمسجلون خطر بالشوارع لترويع الأهالى. البداية الحقيقة للانفلات الأمنى كانت مساء جمعة الغضب (28 يناير)، حيث صدر قرار الانسحاب العشوائى لضباط وأفراد الشرطة، وهو القرار الذى أعقبه اختفاء غير طبيعى لجميع العناصر الأمنية، قبل أن يظهر البلطجية المدفوعان لترويع المواطنين، بالتزامن من انطلاق موجة مدروسة من الشائعات المدروسة حول اعتداءات وهمية على مناطق متفرقة، وكأن وزارة الداخلية تعاقب المصريين على طلبهم للحرية، وخروجهم في مظاهرات الغضب التى كانت شرارة الانطلاق لثورة 25 يناير. ولم تكتف الداخلية بسحب رجالها من الشوارع فحسب، بل بدأت في إكمال المخطط الجبان بإطلاق شرارة إحراق أقسام الشرطة عن طريق بعض العناصر المحسوبة على الجهاز الأمنى من بلطجية ومخبرين سريين، لتبدأ بعدها سلسلة حرائق أقسام الشرطة التى بررت اختفاء الأمن فيما بعد، على خلفية عدم جود مقار للجنود والضباط، وساعدت على استكمال سيناريو الفراغ الأمنى الذى خطط له وزير الداخلية حبيب العادلى. وكانت المفاجأة الكبرى في مثيرى الشعب ولصوص الأزمة عندما ألقى أفراد اللجان الشعبية التى شكلها المواطنون القبض عليهم، حيث كان معظمهم من أفراد الجهاز الأمنى الذى كبد خزانة الدولة مليارات الجنيهات على مدار 14 عاما، هى عمر الوزير حبيب العادلى في الوزارة، ويفاجأ الجميع بأن الوزير القريب من الرئيس مبارك، هو رئيس عصابة ترويع المصريين، في مفارقة غريبة تبدلت فيها الأوضاع، وأصبح المعنيون بتأمين المواطنين هم مروعوهم. وعلى مدار أيام ألقت اللجان الشعبية القبض على المئات من ضباط وأمناء الشرطة وأفرادها السريين، وفى غضون ذلك ثبت للجميع مسئولية العناصر نفسها عن هروب المساجين الجنائيين من السجون ومقار الحجز الاحتياطى بالأقسام، لتكمل منظومة الفوضى التى خطط لها قادة وزارة الداخلية. التحليل المنطقى أن من أطلق سراح السجناء فى توقيت واحد هو السجان وليس أهل السجناء كما ادعى البعض، فكيف لأهالى المساجين فى كافة سجون مصر أن يتفقوا فى وقت واحد على المخاطرة بتهريب ذويهم وكأن بينهم موعدا، ومع ما في ذلك من مخاطر. وشملت الأحداث الانفلاتية كافة المحافظات من أسوان حتى الاسكندرية، ومن مطروح حتى رفح مع انتشار روايات معظمها وهمى حول سرقات موسعة للمواطنين في الشوارع وللمتاحف والآثار، وهى الشائعات التى أنهتها حماسة شباب اللجان الشعبية الذين انتشروا في معظم الشوارع لتأمينها، قبل أن يبدأ رجال الشرطة في العودة من جديد للشوارع في أعقاب تنحى الرئيس مبارك، لكن هذه العودة لم تستمر إلا ساعات معدودة، قبل أن تنسحب الداخلية مرة أخرى من الشوارع، ودون مقدمات. مقولة الفنان أحمد السقا الشهيرة "من النهاردة مفيش حكومة" أول ما سيتبادر إلى ذهنك بمجرد مرورك أمام أقسام الشرطة الخاوية، بعد أن كانت مصدر رعب المواطنين عند المرور أمامها، لكنك الآن لن تجد منها إلا جدران صامتة، وهواتف معطلة، مع لافتة "الشرطة في خدمة الشعب" التى عادت بعد رحيل حبيب العادلى عن الوزارة، وتنحى مبارك عن الحكم. ليست جميع الأقسام خالية من ضباط وأمناء الشرطة، فقد تجد بعضهم داخل بعض الأقسام بالزى المدنى، يتابعون إعادة ترميم آثار التخريب التى تعرضت لها الأقسام. (أ.ع) أمين شرطة بقسم الأزبكية، بدأ يحكى بمرارة عن معاملة المواطنين لهم بعد عودتهم للشوارع والأقسام، مؤكدا أنه وزملاءه يعاملون بتشكك شديد من قبل المواطنين، وقال "تعرضت لموقف غريب قبل يومين، عندما حاولت فض اشتباك بين بعض المواطنين بالقرب من القسم، عندها فوجئت بأحد الأشخاص يصرخ: الحقوا البلطجية رجعوا من تانى!". ويضيف (أ.ع): "فوجئت بالصراخ وبوصفى ب"البلطجى"، وابتعدت عن المكان فورا". وعاتب زميله م.م بنفس القسم مسئولى وزارة الداخلية الكبار، وعلى رأسهم اللواء حبيب العادلى، الوزير السابق وقال: "الكبار لبسونا فسادهم وهربوا!". سألتهم عن رواتبهم وكيفيه الحصول عليها بالرغم من توقف عملها فأكدوا أنهم حصلوا على رواتبهم كاملة ودون أى خصومات, مشيرين إلى أنهم يرون بصيص أمل في تحسن الأحوال خلال الأيام المقبلة. في الوقت نفسه انتشرت شائعات هجمات البلطجية في معظم مناطق الجمهورية، وتنوعت بين اختطاف واغتصاب على يد مجهولين، قبل أن تظهر الشائعة الأكثر إثارة للرعب في كل بيت مصرى، والمتعلقة بهجوم البلطجية على المدارس مع بدء الدراسة، وترويع طلبة المدارس، واختطاف بعضهم وهى حوادث مقصود بها تشويه وجه الثورة الناصع، وتأديب المصريين لأنهم ثاروا على الظلم والقهر الذى مارسه عليهم نظام مبارك طوال 30 عام بمساعدة جهازه الأمنى. "منهم لله بتوع التحرير.. خربوا البلد".. عبارة سمعناها كثيرا في مناطق مختلفة من مواطنين لا علاقة لهم بالسياسة، ولا يريدون من الحياة إلا العيش في أمان، وربما تلك هى النغمة الأساسية التى لعب عليها مجرمو وزارة الداخلية الذين أشاعوا الفوضى والرعب بين المواطنين، بتخطيط من جهاز أمن الدولة الذى يقود حملة إرهاب المصريين. وفى عربات المترو نسمع حوارات الركاب، سيدتان تحكيان عن 60 فتاة بجامعة القاهرة في أول أيام الدراسة، وأخرى تؤمن عليها كل كلامها دون أن تفكر إحداهما في أن الدراسة لم تبدأ من الأساس، وحتى كتابة هذه السطور. وعلى عكس العادة، فوجئنا بشحاذين يمرون داخل العربات بأعداد كبيرة، على غير العادة، فضلا عن الباعة الجائلين.. وخارج العربات كان العشرات من رواد محطة المترو يقفزون فوق ماكينات التذاكر هربا من دفع ثمن التذكرة دون رادع. سألنا أمن المترو عن كيفية مرور هؤلاء بهذه الطريقة التى تثير فزع الركاب، فأجبونا: "إحنا في ثورة، ولو كلمنا حد بيبقى عايز يضربنا.. فاجتمع كافة افراد الامن على عبارة واحدة" هنعمل لهم ايه يعنى احنا فى عصر الثورة ولو كلمنا حد بيبقى ناقص يأكلونا الناس خلاص كلها بقت بلطجية". سيناريو الانفلات الأمنى واضح المعالم، والمؤامرة التى خطط لها قيادات الأمن باتت مكشوفة للجميع، وتشير الدلائل إلى متهمين بأعينهم فى وقائع الانفلات الأمنى، سواء بطريق العمد، تخطيطا وتنفيذا، أو عن طريق المشاركة لصغار الضباط والأمناء لخلخلة الأمن وترويع الآمنين، وهى جريمة ترتقى إلى حد الخيانة العظمى، وتستوجب عقابا رادعا لكل من تورط فيها.