كما تشرق الحضارة فى مكان ما، فإنها تغرب وتزول عن المكان نفسه، عندما تشيخ وتفقد عوامل الازدهار والتنظيم الحضاري، كذلك الدول كما تزدهر وتنمو وتسود، أيضا تتدهور وتضمحل وبلدنا مصر مثال على ذلك ففى تاريخها الطويل شهدت الحضارة إشراقا وغروبا، وشهدت الدولة قوة وضعفا، أما خطر الزوال أو التقسيم، فلم تتعرض له إلا بعد هوجة (يناير)، فاستثمر عملاء الاستعمار الجديد، شوق الناس للتغيير، للقضاء على الدولة، حكومة: بتدمير الشرطة والجيش والقضاء وتشويه مؤسسات الدولة، وشعبا: بالإصرار على الفتنة الطائفية دينية وعرقية بلا كلل ولا ملل، وأرضا: بتقسيم البلاد شرقا وشمالا وجنوبا فهل علينا الاطمئنان لزوال هذا الخطر بعد ثورة 30 يونيو؟! نعم علينا الاطمئنان لوعى الشعب المصري، الذى تفاجأنا به نحن أنفسنا، بعد اهتزاز الثقة فى الجماعة الوطنية، وقد ضعفت وأنهكها الفقر، وتعقدت العلاقات الاجتماعية لأسباب شتي، إلا أن الروح الحضارية الواعية، مازالت تسرى فى هذه الجماعة، ما حافظ على قدرتها على التمييز بين صدق وزيف الخطابات السياسية، حتى ضج الناس وقال العوام: كرهنا الكلام! فعلا.. فى المرحلة المقبلة لا وقت للكلام، ولكن الفعل والعمل على أرض الواقع هو الجدير بالاهتمام، المطلوب فعل مكثف للتخلص من العفن الذى تركناه يرتع فى الجماعة الوطنية، عن قصد وأيضا جهل، كلاهما معا، فالعفن لحق بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بسبب الابتعاد عن النمط العقلانى فى إدارة تلك الشئون، مما حدا بنا للوصول إلى شفا انهيار الدولة! علينا الاستفادة من تجاربنا وتجارب الآخرين، ونضع لأنفسنا برامج اجتماعية مقصودة لتطوير الواقع الاجتماعي، بأقل أضرار ممكنة، فألمانيا خرجت بعد التجربة النازية محطمة على كل الأصعدة، لولا الإرادة الشعبية، التى سعت للنهوض على أسس علمية عقلانية، فتحقق لها ما نراه اليوم من تقدم، وكتب أحد ضحايا النازية( ستيفان روايج) فى كتاب «عالم الأمس» يشرح كيف استخدم النازيون خطاب السحرة البدائيين، الذى يعطى هالة ومعانى وهمية للغرائز الإنسانية، وتصوراً خاصاً للعالم، بناء على أساطير مريحة، سيطرت على فكر الجماعة، وارتاحت إلى شعور الأمن الجماعي، الناتج من إيمان جماهيرى موسع بالفكر النازي، مما أعطاه مصداقية لانتشاره، بصرف النظر عن صحته من عدمه، فالجموع الغفيرة المؤمنة به أعطته الحماية والسلطة الكفيلة لقمع أى رأى يبرز للنقد، فما بالنا بالاعتراض، ويرى (ستيفان) أن النمط العقلانى ليس من الفطرة أو من الطبيعة البشرية، ولكنه أسلوب وطريقة تفكير، لها أدوات وخطوات ممنهجة، يجب تعلمها والتدريب عليها، وهو ما أوضحه (أرسطو) نفسه من قبل لكن عن الفضيلة، فهى ليست غريزة أو شهوة أو سمة يولد بها الإنسان،ولكنها عادة، يتم اختيارها لنفعها، ويتم التدريب عليها وتعليمها، ومع ذلك لا تكتسب صفتها كقيمة إنسانية دائمة إلا بمدى خيريتها فى المجتمع، وبتغير المجتمعات تتغير كذلك قيمة العادات، فمنها مايستمر، ومنها ما يجب أن يحارب وينتهى وعلى رأسها ما تعانى منه بلادنا العربية وشعوب العالم الثالث عامة وهو الفكر الخرافى الأسطوري! وهو أى أيديولوجية لاتخضع للعقل والمنطق والعلم. هذا العقل الأسطورى الانطباعي، كان كعب (أخيل)، الذى استند إليه فقه الاستعمار أو الاستحمار الجديد، لإخضاع بلادنا المثقلة بالأعباء لمشيئته، ويحقق رخاءه ورفاهيته، ويترك هذه الشعوب المتخلفة للعفن الفكرى بكل أشكاله، فلم تعد الرأسمالية العالمية تحتاج لجيوش وتضحيات لحماية مصالحها، فقوانين التجارة العالمية، والسوق المفتوحة إجباريا، وعملاء شبقين للسلطة، عوامل جاهزة وأقل تكلفة، للسيطرة على المنطقة، التى تعج بالتعقيدات التاريخية الثقافية والسياسية، علاوة على الاستكانة الفكرية والوخم العقلي! هذا الوضع ليس قدرا من الله، ولكنه من بشر مثلنا نستطيع رفعه عن أعناقنا، بتطوير واقعنا الاجتماعى بالتكاتف، لإقناع الناس بجدوى العقلانية والتفكير العلمى المنظم، فى تسيير معاشهم، فلا يقعوا تحت سطوة تجار الشعارات الأسطورية دينية كانت أو أيديولوجية حالمة كاذبة، تأخذ قداسة مسبقة ودائمة خرافية! يجب الخروج من حالة تشوش الوعي، التى تصيب قطاعا كبيرا من مجتمعاتنا العربية، فيفكر علميا تارة، وأسطوريا تارة، فى حيرة غير مبررة بين العلم والعقل من ناحية وبين الراحة الوهمية الأسطورية، التى تقود للعفن الفكري، من ناحية أخري! النمط العلمى العقلانى قدم للبشرية عجائب الاختراعات التكنولوجية، والاكتشافات الطبيعية، وكذلك عجائب فى تنظيم المجتمعات، وجميع العلوم الإنسانية، وعند إخضاع هذه العجائب للمنهج العلمى بإرجاع كل شيء لأسبابه الحقيقية يختفى العجب والعجائب، بينما الفكر الأسطورى يتمسك بالعجائب الوهمية التى لا تستند إلى قوانين علمية، أو إدراك عقلى نقدي، فقادنا هذا الفكر الأسطورى إلى الوقوع فى فخ الزعامة، بإيكال الأمور على عاتق فرد، يحدد ما هو الخير والشر، اعتمادا على إخلاصه ووطنيته، فأسقط البرنامج الوطنى الديمقراطي، وأصبحت غواية الزعامة ظاهرة عربية، لا تقدم مراجعات أو نقداً ذاتياً، فتكررت الأخطاء ووقعنا فى العفن السياسى الاستبدادي، ما لا يملك أدوات التحليل العلمى التاريخى الإجبارية! الفكر الأسطورى استبدل الزعيم الملهم، بجماعة من الأبرار افتراضا، تحتكر الحقيقة، وتشترط السمع والطاعة، فلا أسانيد عقلية ولا علمية تحاجج بها النقد العقلانى البناء، فاختصرت الأمور فى السمع والطاعة لأولى الأمر، حتى ولو كانوا عملاء وجواسيس، وأم العجائب أنه مازال هناك مريدون أحياء، لمثل هذه العجائب الشاذة! الفكر الأسطورى الذى يعتمد على الظواهر، ويعطيها معانى ودلالات لا تملكها، قاد لعفن اجتماعي، كل يوم يقدم العجائب غير المنطقية وضد الإنسانية من كل أشكال العنف، والفجور، التى تتخذ مسميات دينية لا تتوافق مع السلوك، فى نفاق اجتماعى يتخذ أشكالاً أسطورية عجيبة بلا معنى أو مضمون لزوم الخداع والدجل، أعتقد أن التجربة التى مرت بها شعوبنا، كشفت كل أشكال العفن لنضع خاتمة لزمن العجائب! وللحديث بقية. لمزيد من مقالات وفاء محمود