شاركت مصر دول حوض النيل فى برامج ومشروعات عديدة بعد حصول معظم هذه الدول على استقلالها فى منتصف القرن الماضى وكان اهم هذه المشروعات هو مشروع الهيدرومت الذى كان يهدف الى التعرف على الملامح الرئيسية للانهمار المطرى والجريان السطحى والايراد الطبيعى للنهر فى احباسه العليا والسفلى وكانت النهاية المأساوية لهذا البرنامج غزو احدى دول الحوض وهى تنزانيا للاراضى الاوغندية حيث تم تدمير العديد من مقاييس المطر و الاجهزة التى وفرها المشروع. ظهر فى الافق بشكل مفاجىء وبراق قرب نهاية القرن الماضى مشروعان احدهما كندى المصدر والآخر بقيادة البنك الدولى وتحمست اثيوبيا على غير العادة لهذين المشروعين وانطلى على الجميع الاهداف الحميدة التى طرحها الخبثاء من جانب الجهات الممولة الذين استفاضوا فى طرح وشرح العطايا والمزايا المالية للدول التى سيكتب لها المشاركة فى هذا النشاط وكان الشعار الذى طرح فى ذلك الوقت هو المشاركة: مشاركة فى المنافع آنيا ومشاركة فى الرؤية مستقبلا الا ان مصر بدأت تحس بالتدريج بطعم المؤامرة حيث تحول المسار من المشاركة الى المفارقة التى وضع بذرتها السادة المانحون وكان مفادها ان المشاركة تحتاج الى العدالة والعدالة لا تكون الا باعادة التوزيع توزيع المياه بين دول الحوض وكانت هذه هى بداية الاختلاف الذى انتهى الى انفصال دول المنابع فى جانب ودول المصب وهى هنا مصر بمفردها امام هذا الحشد من الدول الجامحة التى اقنعتها اثيوبيا بأن مصر بنت حضارتها واقامت زراعتها وصناعتها وسياحتها وجميع مقومات اقتصادها على مياه النيل التى تهطل على اراضيهم ولا يستفيدون هم منها بقدر ما تخضر اراضى مصر و تتلألأ قراها ومدنها بأنوار طاقتها. إذن كان التخطيط الاثيوبى قديما وراسخا ولم يكن التحسب والترقب والاستيعاب المصرى على نفس القدر من الذكاء والانتباه ظهر ذلك بوضوح عندما وقعت مصر والسودان على اتفاقية مياه النيل عام 1959 تمهيدا لانشاء السد العالى وساعتها بادر الامبراطور هيلا سلاسى بالتقدم بشكوى للامم المتحدة الا ان الحس الرائع للزعيم الراحل جمال عبدالناصر تجلى فى دعوة الامبراطور لحضور احتفالات اتمام العمل فى السد او ربما الاحتفال بافتتاح الكاتدرائية المرقسية بالعباسية وقبل الدعوة غير ان الرؤساء الذين حكموا البلاد بعد جمال عبدالناصر لم يكونوا على نفس الدرجة من الالهام والنبوغ اللذين كان الرجل يتمتع بهما، إلا أن سؤالا مهما يمكن أن يثار هنا هو لماذا لم تجأر مصر بالشكوى ضد اثيوبيا عندما قص رئيس الوزراء زيناوى شريط البدء فى فاعليات انشاء سد النهضة ؟ الدرس الاول الذى يمكن ان نخرج به من هذه التجربة ان مصر بالفعل قد استدرجت الى طريق ما كان لها ان تسلكه لو ان عاقلا نصح بان التجارب المصرية كلها مع البنك الدولى ليست بالضرورة ايجابية لا لسبب الا لان هذا الكيان هو خليط من البنوك التجارية العادية وجهات التمويل التى تحكم تصرفاتها السياسة التى تفرض على من يتعامل معها ان يرضخ بشروط الممول والا فلا تمويل. الدرس الثانى أن اثيوبيا ظلت تتحين الفرص التى تستطيع من خلالها ان تنفرد بالعمل فيما تظن انه شأن خاص بها وهو المطر الذى يسقط على اراضيها حتى وصلت عن طريق باقى الدول الى الوضع الذى يجعل الجميع فى عداء ظاهر او مستتر مع مصر حتى تتمكن من تنفيذ اغراضها ومقاصدها والسؤال الذى يجب ان يطرح الآن هو هل النيل الازرق وما يحمله من مياه تنتهى به الى النيل الرئيسى ملكية خاصة بالدولة الاثيوبية ام هو ملك لدول حوض النيل الشرقى مصر والسودان واثيوبيا جميعا؟ كان من الطبيعى ان تهرع مصر الى مائدة المفاوضات لمحاورة هذا المارد الاثيوبى الذى كشر عن انيابه والذى كان حتى وقت قريب يرتدى مسوح التواضع فى الانصياع والاستكانة واذا به كمن تمسكن حتى تمكن وما ان تمكن حتى تجبر وتنطع واستكبر حتى اصبح التفاوض معه شديد الصعوبة عسير المنال المهم هنا ان اثيوبيا قد نجحت فى تدريب العديد من المفاوضين بحرفية ومهنية وتقنية عالية بينما ذهب المفاوض المصرى الى طاولة الاجتماعات كجندى ذهب الى ميدان القتال بلا سلاح ليواجه عدوا مدججا بارقى ما وصل اليه العلم من عناصر القتل ومعاول الهدم وآلات الفتك والتدمير ويثور هنا ايضا سؤال مهم هو لماذا يوكل امر هذا الملف الذى يحتاج اكثر ما يحتاج الى المفاوض المحترف الى وزارة هى فى حقيقة الامر لا تعنى الا بالشأن الفنى ولا علاقة لكل من فيها بمسارات التفاوض ومهارة ادارة الحوار ولماذا لم يوكل هذا الشأن بكله وكليله الى وزارة الخارجية المصرية ذات الباع والذراع فى هذه الشئون مع ايفاد الفنيين من مهندسى وزارة الرى لمساعدة الدبلوماسية بالآراء الفنية والاصول الهندسية ؟ نأتى الى تمويل هذا السد الهائل الذى افادت اثيوبيا انه سيكون عن طريق الاكتتاب العام والذى نظن انه يعجز عن أداء مثل هذه المهمة بامتياز ثم عن طريق بنود الموازنة العامة للدولة التى لا نظن ان تلك تزيد على سابقتها والعنصر الثالث والمهم هو المنح والقروض وهنا يكون الدور المصرى فى تحذير كل من سيسهم فيها بأنه لا يسهم فى مشروع تنموى بقدر ما يسهم فى القضاء على مشروعات تنموية مصرية مع شرح الموضوع للجميع بأمانة وشفافية بل من واقع تقرير اللجنة الثلاثية الذى لم يظهر بالوضوح الكامل والتام حتى الآن يمكن ان تتوجه مصر بهذا الخطاب الى جامعة الدول العربية للنشر على المستثمرين العرب و على منظمة الدول الاسلامية و على دول الاتحاد الافريقى بل و على كافة دول الجمعية العامة الاممالمتحدة . الخلاصة ايها السادة ان هذا المأزق يعلمنا الا نثق الا فى من يستحق الثقة وأن القضايا المصيرية تستحق أن ننظر اليها بعين الاهتمام ونتابعها بقوة القانون واليقين وأن نتعلم كيف نروج لقضايانا المصيرية هذه داخليا وخارجيا بما يستحق من الدعاية والاعلان وان نكثف فى الوقت الحاضر حملاتنا ضد كل من يظن انه سيساهم فى تمويل هذا السد وأن يتم كل ذلك ونحن نواصل المسيرة على طاولة المفاوضات ولو أدى بنا الامر للانتقال من مستوى الوزراء الى مستوى الرؤساء ثم الى مستوى الوساطة والمساعى الحميدة والتوفيق والتحكيم وكل ما تنص عليه المواثيق الدولية والاعراف العالمية دون كلل او ملل وعلينا جميعا ان نعرف ان مثل هذه الامور لا ولن تصل الى نهايتها فى ايام او اسابيع بل ربما يستغرق حلها السنوات والاعوام لمزيد من مقالات د. ضياء الدين القوصي