فى محاكمة تاريخية واستثنائية من حيث ملابساتها وتوقيتها وطول الفترة المتوقع أن تستغرقها، بدأت فى فرنسا الاسبوع الماضى أولى جلسات محاكمة "باسكال سيمبيكانجوا" رئيس مخابرات رواندا السابق المتهم بالتواطؤ فى ارتكاب مذابح جماعية وجرائم ضد الانسانية خلال المجازر التى شهدتها رواندا فى تسعينيات القرن الماضى وراح ضحيتها 800 ألف شخص على الأقل معظمهم من عرقية التوتسى فى مدة زمنية لم تتعد 100 يوم. ورغم مرور فترة زمنية طويلة على هذا الحدث المأساوى الى الحد الذى سقطت فيه تهمة التعذيب عن المتهم بالتقادم، فإن هناك اجماعا بين المراقبين على أهمية هذه المحاكمة ليس فقط بسبب سعيها لتطبيق العدالة على كل من تلطخت ايديهم بدماء الضحايا، ولكن ايضا لكونها دليلا عمليا على رغبة فرنسا فى تعزيز التقارب الهش مع رواندا وعلى تدعيم العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية التى تعد من وجهة النظر الفرنسية حجر الزاوية للحفاظ على استقرار منطقة وسط وشرق افريقيا، كما انها وهذا هو الأهم تنفى عن فرنسا تهمة التلكؤ فى تحريك الدعاوى القضائية المرفوعة أمام محاكمها ضد عدد من المسئولين والمواطنين الرواندين المتورطين فى المذبحة الذين هربوا لفرنسا وتمتعوا بالحماية منذ ذلك الحين، فضلا عن أن فتح هذا الملف يعد من وجهة نظر الكثيرين مؤشرا على الجهد المبذول من فرنسا لإنهاء الحماية التى تمتع بها هؤلاء، ونفيا مؤكدا للاتهامات التى سبق أن وجهت لها بالاشتراك فى تدريب وتسليح ميليشيات «الهوتو» وهى الاتهامات التى انكرتها السلطات الفرنسية مرارا وتكرارا وتسببت آنذاك فى حدوث حالة من الجمود الدبلوماسى بين البلدين. ويشير المراقبون الى أن الاتهامات بالتلكؤ والتستر على المشتبه فى ضلوعهم فى هذه المذابح لم تأت من فراغ، فقد سبق وفرضت المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان غرامة على فرنسا بسبب التباطؤ فى تحريك الدعاوى القضائية تجاه المشتبه فيهم المرفوعة أمام محاكمها منذ عام 1995، كما أن اللجنة الدولية التى شكلت آنذاك واستمعت لشهادة العديد من الباحثين والناجين من المذابح والمراسلين الصحفيين اتهمت فى تقريرها فرنسا بلعب دور فعال فى الانتهاكات التى شهدتها رواندا، فضلا عن تأخرها عن كثير من الدول الاوروبية المجاورة مثل بلجيكا وسويسرا والمانيا فى تقديم المواطنين الروانديين المشتبه فى تورطهم فى المذابح ممن يعيشون على اراضيهم للعدالة، الامر الذى صنف فرنسا فى خانة الدول التى توفر ملاذا أمنا لقادة عمليات الابادة، رغم أنها قامت عام 2009 بعد تحسن العلاقات الدبلوماسية مع رواندا بتعيين 5 قضاة للتحقيق فى مسألة الهاربين الروانديين، كما افتتحت مكتب تحقيقات متخصص فى جرائم الابادة الجماعية. وعودة الى المحاكمة التى شهدت أولى جلساتها زخما شديدا وحضورا مكثفا من النشطاء الحقوقيين والصحفيين الذين جاءوا من رواندا لمتابعة المحكمة، بالاضافة لبعض أقرباء الضحايا ومؤسس جمعية ضحايا رواندا وزوجته، وهى الجمعية التى تعد طرفا رئيسيا فى القضية وصاحبة الجهد الاكبر فى جلب المتورطين فى المذابح وعلى رأسهم سيمبيكانجوا للعدالة، فقد شهدت الجلسة سجالا بين أعضاء هيئة الدفاع عن المتهم الذين طالبوا منذ اللحظة الاولى بالغاء القضية مبررين ذلك بانها ستفتقر الى العدالة، لأنهم لا يملكون الوسائل الكافية للدفاع عن موكلهم ولم يسبق لهم أن زاروا رواندا للتحقق من الادلة المقدمة ضده، وبين الادعاء الذى وجه اليه اتهاما مباشرا بمساعدة ودعم ميلشيات الهوتو التى أقامت نقاط تفتيش فى العاصمة كيجالى كانت تقوم بعزل المواطنين المنتمين لعرقية التوتسى واعدامهم، وأنه أشرف على تسليم الأسلحة واعطاء التعليمات لهؤلاء. وقد حضر الجلسة سيمبيكانجوا -54 عاما- المصاب بالشلل النصفى على كرسيه المتحرك، والذى سبق وصدر له مذكرة اعتقال دولية منذ عام 2008، والقى القبض عليه فعليا فى العام التالى فى جزيرة مايوت وهى أرض فرنسية فى المحيط الهادى بعد اختبائه هناك لعدة سنوات، حيث استمع بهدوء للاتهامات وانكرها كلها. وقد توقع المحللون أن المحاكمة المقرر أن تستمر من 6 الى 8 أسابيع سيتم خلالها الاسماع لشهادة أكثر من 50 شاهدا بينهم صحفيون ومزارعون ومسئولو استخبارات الى جانب متابعة عدد من المسئولين الروانديين السابقين والمؤرخين الفرنسيين، ستشهد ضغوطا من جانب رواندا ومن مقيمى الدعوى الذين يرون انه بعد مرور 20 عاما على ابادة التوتسى لابد من ادانة المتهم كى يكون عبرة لغيره، فى الوقت الذى سيسعى فيه محامو الدفاع لبذل أقصى جهد حتى لا يكون المتهم كبش فداء لما حدث، خاصة أنه فى حالة ادانته سيعاقب بالسجن مدى الحياة، وهو ما دفع البعض للقول إن القضية اذا انتهت بتبرئة المتهم ربما ستؤدى لحدوث انتكاسة لعملية التقارب بين البلدين. وبغض النظر عن هذه الاحتمالات فإن الشىء المؤكد أن هذه المحاكمة التاريخية تعد نقطة تحول فى علاقة فرنسا المتوترة مع رواندا منذ حدوث المذبحة، وانها ليست فقط محاولة لرد الاعتبار لمن قضوا نحبهم فى هذه المجازر المؤسفة ولكنها أيضا فرصة لاطلاع المواطنين الفرنسيين على حقيقة ما حدث فى تلك الفترة وعلى الدور الذى تلعبه فرنسا فى افريقيا.