صنع المصري القديم كل حاجاته من خامات بيئته، حيث تنوعت منتجاته اليدوية مع تنوع وثراء الطبيعة المصرية, وكما اشتهرت مصر بفنون العمارة والنحت، تميزت أيضاً بتنوع فنون المنسوجات التي تعتمد على تقاطع الخيوط الطولية مع العرضية، والتي ظلت عبر تاريخها شاهدًا على مستوى الحرفي المصري. وبعد استقرار الإنسان المصري واحترافه الزراعة بدأ في صناعة النسيج الأكثر دقة ليعمل أرديته وأغطيته لصغاره من أوبار وشعر الحيوانات التي استأنسها ورعاها في حظائره، وتطور النسيج حتى بات عنوانا للمدنية والرقي. وكانت لفنون المنسوجات منذ العهود الأولي للدولة المصرية القديمة كيانات صناعية، استمرت في العصر اليوناني الروماني المنسوجات بنفس التميز، وفي الفترة الإسلامية تميزت المنسوجات المصرية وتنوعت، وكان أشهرها الكتان الذى تصنع بطريقة القباطى، وتظهر دقة نسيجها في القمصان والملابس التى تملأ متاحف العالم، ومنها الكتان الدقيق الذي استعمل في التحنيط، وربما تعجز الآلات الحديثة عن تقليده. ومنسوجات الجوبلان، والأُبيسون، والتابسترى كلها تنسج بتقنية فن القباطى المصرى، الذي اشتهرت به مناطق عديدة في مصر أهمها محافظة أسيوط في الصعيد، وسميت “القباطي” نسبة للقبط ( وتعنى مصر في لغاتها القديمة) ، ونسبت إليها المنسوجات الدقيقة المصنعة بذات الطريقة، وهى نسجيات شديدة الدقة والتنوع سواء فى الخامات المضافة، أو التصميمات الملونة شديدة الخصوصية التى ميزتها وظلت معروفة بها لقرون ممتدة. ويعود اسم “الجوبلان” لمصانع فرنسية اشتهرت بصناعة نسيج القباطي، أنشأها أول الأمر (جِل وجين جوبلان) في باريس سنة 1450م، وما زالت هذه المصانع تعمل تحت إشراف الدولة هناك حتى الآن، وتنتج نسيج القباطي بمناظر تصويرية، أما “الأوبيسون” (Aubisson) فتعود تسميته إلى مدينة “أوبيسون” فى ضواحي باريس، واشتهرت بنسيج القباطي وبالمناظر التصويرية منذ القرن الخامس عشر، و”التابستري” إصطلاح إنجليزي يعني النسجيات المُرسَّمة. وارتبطت المنسوجات المصرية عامة بالإله أوزير، وكان لدي قدماء المصريين آلهة حامية النسيج، والآلهة الناسجة، وأسماء الآلهة النساجون هى تائيث، وحدج حتب، وإيزيس، ونفتيس، ونيت، وننوتت، وحعبى، وواجيت، وسخمت، وسخمت باستت رع، وحورس. وفى العصر القبطى تفنن الرهبان والقديسون الهاربون من بطش الرومان في النسيج على كافة منتجاته، فتميز العهد القبطى بصناعاته النسجية المتنوعة خاصة فن القباطى. وحين دخل العرب مصر لاحظوا تميز الأنسجة المصرية، وأضفوا عليه بمرور الزمن صبغة إسلامية تعتمد على التجريد والرموز المرتبطة بالعقيدة الإسلامية، وأدخلوا الخط العربى بتنويعاته فى الأعمال النسجية . والآن يُعرف فن القباطي بالنسجيات المُرسَّمة، وخصصت له وزارة الثقافة داراً فى حلوان، واشتهرت مناطق معينة بإنتاجه أهمها أسيوط، وفُوّة بكفر الشيخ، والحرانية بالجيزة . واشتهرت أسيوط بالمُرَسمات وانتقلت منها إلي أماكن أخري، خاصة كرداسة، واستعان فنانون تشكيليون بصُنَّاع القباطى فى تنفيذ أعمالهم المصورة، ولم يكن يخلو بيت في غرب أسيوط من أربعة أنوال يدوية على الأقل، وكل منزل منها كان بمثابة مصنع صغير، وتضمنت الرسوم الأساسية صورا ريفية، مثل حفلات السمر، والحياة اليومية للفلاح وعمله في الحقل، وتجمعات الفلاحين، والجمال والأغنام ومناظر الرعى، وشجرة الحياة التي تمثل كل ورقة منها نوعا مختلفا، وأيضا الثعابين ورموز لكائنات مختلفة، والنيل بمفرداته كان بطلا لأعمال فنية ونسجية كثيرة. ويستخدم الحرفي الفنان التدرج في اللون الواحد ليسمح بخلق البعد الثالث الذى يوحى بتجسيم تخيلاته، وامتلك بعض الموهوبين من الحرفيين قدرة استثنائية على تنفيذ لوحات المستشرقين التى رسموها عن مصر وتنفيذها بفن القباطى، التي حرص صناعها على سرعة الإيقاع اللوني وحيوية صورهم ومناظرهم وحبكة التكوين. وتنوعت طرز قباطي أسيوط وتحديدا منتج قرية “النِخيلة” التي أفرزت أهم الطرز النسجية اليدوية، ومنحتها خصوصية تعكس التعددية الثقافية والتواصل الحضاري كمفهوم تطبيقي لأنصع صور الوحدة الوطنية، التي تتجلي فيها وحدات تشكيلية تجسد الثقة بين المسلمين والأقباط، مثل مفردة شهيرة اسمها “مئذنة في كتف صليب”، والتي اخترتها عنواناً لكتابي المأخوذ عن رسالة الدكتوراه وكانت عن توثيق وتنمية فن الكليم الأسيوطي. . وكان الحرفي المصري أسبق من “إتفاقيات اليونسكو الخاصة بالتعددية الثقافية” (2005)، حيث جسد مفاهيم حقوق الإنسان في مفرداته العبقرية حيث جعل منسوجاته الفنية المتنوعة انعكاسا للنسيج الاجتماعي السمح للإنسان المصري الذي عكس حرية الاعتقاد في فنونه اليدوية، مثل العمل النسجي المدهش الذي يستعمل كمفرش للكنب البلدي في تجديد البيوت إنتظاراً لرجوع الحُجَّاج من الأراضي المقدسة، وإستقبال المهنئين، حيث تحمل هذه القطعة النسجية الصليب واللوتس ومياه النهر والكعبة والأهلة وعرائس المسجد متناغمة فى انسجام تام، وتسمي المفرش “المقربن” نسبة للقربان، وهي من أعمال قرية النخيلة، وتعكس وحدة الشخصية المصرية الكامنة في وجدان الحرفي المصري.