الشعب يريد إسقاط النظام.. الشعب يريد إعلاء النظام.. يسقط يسقط.. يعيش يعيش.. وامتلأت أذني الشمال بالهتافات المعارضةوامتلأت أذني اليمين بالهتافات المؤيدة.. وتصادم الصخب الهائل في بؤرة الرأس.. هادرا مستجيرا! نظرت لملامح زوجتي المشدودة.. الواقعة في تيار الجذب المغناطيسي للشاشة الصغيرة. العينان شاخصتان والفم منفرج والأذنان معقوفتان والأنف مشرع للأمام.. الملامح كلها غارقة في دوامة الغم الأزلي! اقتلعت نفسي من الكنبة واتجهت ناحيته في إصرار. لابد أن أفعلها فورا.! وفعلا استجمعت نفسي ودفعت بإصبعي في حلقه. ضغطت الزر بكل غيظي فانقطع الصوت والصورة, وأظلمت الشاشة وتراكم سوادها الكالح لامعا. وظلت زوجتي لحظات علي حالها, لاتتحرك ولا تنبس.! بدت كتمثال الكاتب المصري الصامت منذ الأزل. ثم شاطت فجأة لاعنة الدنيا وما فيها ومن فيها. تنفض هدومها عن غليان صدرها وتنفخ. فماذا جري للناس وأين ذهبت عقولهم؟ وباغتني تساؤلها وهي تقتحم عيني في غل. أين نحن بالضبط.. هه.. أتعرف أين نحن؟ ولمحت وجهي شاخصا في المرآة.. مخضبا بملامح بلاهة متأصلة. قلت آخذ زوجتي ونخرج الي الشارع. كان لابد أن أذهب بها الي أي مكان..! أي مكان.! رائحة الخضرة ونسمات الغروب. وأطياف الأضواء المشعة من الكرات الكبيرة المبعثرة علي النجيل الرطب. ورائحة الشواء المتطايرة في الجو. وبدا المنظر ساحرا. كانت ربوة حديقة نادي الزمالك عامرة بالرواد. يأكلون ويشربون ويتسامرون ويتبارزون بالشطحات السياسية. ودرنا في المكان نبحث.. ألا توجد ترابيزة واحدة خالية؟! جذبتني من ذراعي ساخطة. ألم أقل قعدة البيت هي الحل!. وإصطادتها عيني هناك. واحدة تشغل ترابيزة بجوار النافورة وبجوارها كرسيان خاليان. آه.. لقد وجدتها.! وتركت ذراع زوجتي وأسرعت.. انتظري لحظة هنا. سبقتني ابتسامتي وأنا أقترب منها وأضع يدي علي ظهر الكرسي الخالي. عفوا ممكن الكرسي؟. فاجأتني عيناها تنفذان من وراء الشال المنسدل علي رأسها, بينما شفتاها تتمتمان في تواتر متلاحق. عرفت أنها تصلي فتراجعت قليلا وانتظرت. بدت امرأة في طور الشباب عادية المظهر في كل شيء. وانتبهت الي أن أحد الكرسيين يشغله علم مصري كبير الحجم. فكرت أن أتراجع.. ولكن قدمي لم تطاوعني, ففرصة الحصول علي الكرسي لا تعوض. نادت زوجتي تتعجلني فأشرت لها أن تنتظر. وظللت أراقب حركاتها المتأنية الخاشعة وهي مستغرقة في الصلاة بكل حواسها, بينما تفلت منها النظرات الخاطفة ناحيتي بين الحين والحين.. أمازلت واقفا أراقبها؟! تواريت خلف الشجرة لأتركها علي راحتها حتي تنتهي من صلاتها. عادت زوجتي تنادي وتتعصب في حركاتها. فأشرت لها أن تنتظر وأنا أتعصب في حركاتي. وأخيرا انتهت المرأة من صلاتها. سلمت في تؤدة ذات اليمين وذات الشمال. وحين هممت بالتحرك من مكاني رأيتها تختطف الشال من فوق رأسها وتلقي به علي الكرسي الآخر. ما هذا؟ معقول ما أري؟ الشعر الطويل المتحرر علي سجيته.. والوجه الساحر المتأنق في عبقرية.. والبلوزة الحمراء الكاشفة لجمال الرقبة وانحدار الكتفين وبللورية الذراعين. ماذا يحدث أمامي وأراه بعيني؟ هل يمكن أن تكون هي نفسها التي كانت..؟! تماسكت وتقدمت مترددا. أتريدين هذا الكرسي؟ وظلت لحظات ساكنة قبل أن تهز رأسها بنعم وشعرت بالحرج والغيظ في نفس الوقت. أتحجز كرسيا للعلم وكرسيا للشال؟ ألا تري ظروف الزحام وتراعي مثلا أن...! وتوقف الكلام علي طرف لساني فمن الأجدي أن أكبر دماغي كما يقولون, وأترفع عن خوض جدال لست مهيئا له الآن أعطيتها ظهري ومشيت خطوتين فلاحقني صوتها مناديا. يا أستاذ.. أنت يا أستاذ توقفت ونظرت.. هل أرجع لها؟ وظلت منكسة الوجه وأنا أقترب منها وتركتني لحظات أنتظر قبل أن يتهادي صوتها الحالم. أتريد كرسيا.؟ قلت في استخفاف. إن كان ممكنا.! وعاد صوتها يتناغم ناعما. ألم يعد هناك كراسي في النادي؟. ورحت أجتر غيظي وأمسك نفسي.. وقبل أن تنفلت ثورتي رفعت كفها في مواجهتي. روق يا أستاذ الكلام أخذ وعطاء.. اغرس هذا العلم هنا وخذ الكرسي. غرست العلم بجوارها في النجيلة وترددت وأنا أنظر للكرسي الآخر.. هل أطلبه لزوجتي بالمرة؟. قالت وقد تصيدت ما يدور في رأسي. هذا كرسي الكابتن.. حالا سيأتي.. لابد أن يأتي. وانطلقت فجأة تشيط في الجرسون. أين الطلبات يا مسطول.. أتريدني أن أتصرف بمعرفتي كالعادة؟ لملم الجرسون ثورتها في برود ومشي. وبدأ شيء لافت يتدلي من سلسلة رقبتها المنفعلة. كان الجو باهتا والأضواء متناعسة. ما هذا.؟ أهو صليب حقا أم أنني؟! هو بالفعل صليب صغير من الفضة مطعم بفصوص رائعة التناسق والألوان.. تضوي لمعانا في غاية الوقار والجمال. ولكن كيف وقد رأيتها بعيني وهي تصلي في خشوع؟ تصلي وتتجه إلي قبلة المسلمين وتؤدي حركاتهم؟ هل أصابني شيء في أعماق النافوخ وجعلني..؟ وأعدت التطلع مرة أخري مراجعا نفسي هو بالفعل صليب دقيق الصنع يبدو أثريا.. يتدلي من السلسلة الذهبية المتأنقة الحلقات. ما هذا أيضا الذي يشتبك مع الصليب في الحلقة الأخيرة من السلسلة؟ وارتبك شيء بداخلي. ما هذا..؟ أهو مصحف صغير من الفضة؟ وسيطر الفضول علي حواسي فركزت ونظرت. هو مصحف بالتأكيد.. مصحف محلي بالزخارف والنقوش العربية الرائعة.. يبدو تحفة من بازارات خان الخليلي. انتبهت إليها وهي تسألني وقد تغاضت عن نظراتي الحائرة. بدت ابتسامتها الطفولية رقيقة وناعمة ألا تريد أن تجرب الكرسي قبل أن تأخذه؟ والتقط رأسي مشاغبتها الذكية وأنا أبحث عن مكان زوجتي كانت هناك مع المجموعة.. واقعة في تيار الجذب المغناطيسي للشاشة الصغيرة.. مجموعة متعاطي المعارك الأيديولوجية من أعضاء النادي. كلهم يتصايحون حول مستمع واحد.. يبدو تائها في ملكوت الكون! شظايا النقاش تتطاير وتتساقط علينا.. الكابتن جنش يقود فريقا. وأخوه الكابتن بشبش يقود الفريق المعارض.! الكل يكافح لاعتلاء الأعناق والرءوس فارضا عبقريته الفذة مؤكدا أحقيته بالزعامة.وكانت هي تهدهد شالها وتضمه في حنان غريزي. بينما عينها تختطف النظرات من ناحيتي. أعادت التساؤل في اصرار إن كنت أريد أن أجرب الكرسي قبل أن آخذه. طاوعتها وجلست عليه.. علي الكرسي الخالي. أمتعني براءة ابتسامتها وهي تتابع حركاتي المفتعلة وأنا أقوم باختبار إمكانات الكرسي ومتانته. مشجعة علي التمادي في هذه الحركات. والتمعت الفكرة في عينيها وهي تفاجئني ان كنت أريد أن أجر الكرسي الآخر؟ فلعله يكون الأفضل. ثم استدركت في حياء.. فقد يتأخر الكابتن ولايجيء الآن! وشعرت بتثاقل يشدني ويترسب ببدني فلم أتحرك. سألتني في تردد ان كانت تعطلني عن شيء؟ وقبل أن أتكلم بادرني صوتها مبحوحا حزينا.. بينما تنكس عينيها وتداعب الصليب والمصحف في طرف السلسلة. بدت الكلمات شائكة الأطراف تدمي جوفها وهي تستخلصها منه. النذل.. لم أر في حياتي نذالة بهذه الدرجة!. انكمشت في الكرسي تقاوم الارتعاشة المفاجئة وتردد بأسي.. فهي كانت صاحبة الفكرة التي انتشلت الكابتن النذل من حضيض الأرض لتطلقه الي عنان السماء. وهي كانت صاحبة رأس المال الذي بث قبلة الحياة في شرايينه وأعاد نبضها للحياة. وبعدها.. أتعرف ماذا حدث بعدها؟ وسقطت قطرات مرتعدة علي المفرش الناصع فبللته. وراحت تتسع وتتسع وتتمدد! داعبت أناملها أطراف العلم في عصبية.. وبدأ صوتها يستحلب توتر صدرها في اشفاق. فهي التي أخذت الكابتن بيدها الي هناك.. الي حشد ميدان التحرير.. وهي التي اختارت له المكان الخرافي ورسمت له الخطة العبقرية التي لا تخر نقطة الماء... فكوب الشاي يتكلف ربع جنيه علي الأكثر.. وصاحب الكيف لا يضلعه أن يدفع فيه جنيهين او ثلاثة.. ومتوسط رواد الميدان لايقلون عن ربع مليون دماغ.. ربع مليون زعيم من الثوار أصحاب الكيف العالي. ربع مليون خرمان في اليوم الواحد يتزاحمون في الميدان! احسبها بقي براحتك يا أستاذ. كم يدخل جيب الكابتن النذل في الشهر؟.. هه.. كم مليون تعتقد؟ وانتفضت متشنجة ونزعت العلم من النجيلة. فهي لم تحب رجلا في حياتها كما أحبته! ولم تعط مخلوقا في حياتها كما أعطته. وراحت تطعن النجيل الرطب بسن العلم في غيظ. فلن تتركه يخونها ويزوغ منها بهذه السفالة. فقد عرفت مكانه وعرفت العفريتة السوداء التي جرته الي هناك.! وشدني هياج المعركة الدائرة بجوارنا.. حيث كانت زوجتي. اختطف الكابتن جنش جهاز التليفزيون وطوحه ناحية أخيه بشبش.. واختطف الكابتن بشبش عصا الهوكي وهجم علي رأس أخيه جنش.. وراحت الأيدي والأصوات والكراسي والأدوات تتعارك وتتطاير في عشوائية وتملأ الأجواء؟. وانتبهت منزعجا.. فأين ذهبت زوجتي؟.. أين اختفت؟ ليست هناك عند المعركة! وكانت المرأة تتململ في كرسيها وتناوش العلم برجلها بينما ينفلت الكلام من فمها.. فالكابتن جنش يساري متشدد, وأخوه الكابتن بشبش علماني متطرف.. النادي تحول الي مستنقع جيفات.. هي تعرف كل هذه الأصناف وربتها علي يدها هذه! واصطدت عيون زوجتي أخيرا.. كانت متحوصلة حول شاشة كبيرة تحت حمام السباحة, مع مجموعة من العيون الواقعة في شبكة الأسر الاعلامي. مدت المرأة طبق الترمس ناحيتي. إعطها سنة تسلية يا أستاذ.. إعطها ترمس تعطيك طراوة! وبدت عيناها تسبحان في ملكوت الرحمن.. تغوصان بالرأس في عبقرية الزمان والمكان اللامتناهية وتستحلبان ما وراء العقل. وأطبقت علي يدي فجأة في عفوية. مؤكدة أن دماءها هي نصف مصرية.. تصور؟! وراحت تداعب الصليب والمصحف بين أناملها. وتتمسحهما بشفتيها في تلذذ طفولي. فالأب كان مصريا أصيل الجنسية ومسلما من أبناء الحسين. والأم كانت تشيكية أصيلة الجنسية ومسيحية من ريف السلوفاك. كانا مخلوقين رائعين. لم تعرف البشرية محبة وترابطا وانسجاما كما عرفها أبواها. ولم تحظ ابنة بنبع حنان كما حظيت هي منهما تحابا في اخلاص نادر وأحبا هذا البلد. ولكنهما ذهبا للأسف وتركاها.! وحين ماتا تسربت من صدرها نبضات حياتها الحقيقية فلم تعد تستشعرها.! وتحسر صوتها أنينا شجيا. فقد اختطفهما القدر في حادثة فظيعة.. وماتا متداخلين كما عاشا متداخلين. وتمادي بريق عينيها يتشرب لمعان الصليب وهي تضمه بتشوق شفتيها. صليب أمي رحمها الله. وخشعت نظرتها في رحاب المصحف وشفتاها تضمه بنفس التشوق مصحف أبي رحمه الله. وفاجأت نسمة الهواء خمول الأوراق المحبطة علي أكتاف الفروع. وقفت ثم جلست في تردد وهي تنفخ في ضيق. هبت في ثبات وراحت تلملم أشياءها من حولها. سأذهب الآن.. لن يأتيني أحد.! ولم أجد ما أقوله لها.. ولم أجد أي حماس أتحرك به من مكاني. أحسست بنفايا الصدور تتراكم من حولي. زفرات صاهدة بمرارة الانكسار.. وكأن صلابة الأرض تتراخي تحت قدمي.. تنذر بالابتلاع. ولم أعرف كيف جرؤت.. ومن أعطاني الحق في أن أنطق بها متسائلا. إلي أين تذهبين.؟ بدت مهزومة.. تكلم شخصا آخر يقف من خلفي. انساق النذل وراءها لميدان رابعة.. لن أتركه هذه المرة.! وقبل أن تعطيني ظهرها وتذهب فاجأنا الطفل صاخبا مهللا. تسابقه كركرة ضحكته الرائعة تموج بالفرحة يضرب بكفيه الصغيرتين رخامة المكان الهامد. مناوشا تلال الإحباطات المتناثرة علي النجيل. بينما تعكس إشراقة وجهه البرئ أطياف الأضواء في عفوية طفولية. اختطف عصا العلم منها وراح يجري في حماس متدفق.. يجري ويتعثر علي النجيل.. ويقوم ويرفع العلم في مجاهدة.. ويجري ملوحا بالعلم بكلتا يديه الصغيرتين في سعادة متوهجة. مرددا ببكارة صوته المتعثر. تح.. تح.. تحيا مصر. تح.. تح.. تحيا مصر. وظل يدور من حولنا ويكركر بضحكته ويدور. فاجأنا وطار بالعلم إلي هناك.. متخفيا بين الأشجار.. ومن ورائه صخب أطفال يلاحقونه. تلاقت نظراتنا الجياشة قبل أن تعطيني ظهرها.. و.. وتذهب. الشعب يريد إسقاط النظام.. الشعب يريد إعلاء النظام.. يسقط يسقط.. يعيش يعيش.. وامتلأت أذني الشمال بالهتافات المعارضة وامتلأت أذني اليمين بالهتافات المؤيدة.. وتصادم الصخب الهائل في بؤرة الرأس.. هادرا مستجيرا! نظرت لملامح زوجتي المشدودة.. الواقعة في تيار الجذب المغناطيسي للشاشة الصغيرة. العينان شاخصتان والفم منفرج والأذنان معقوفتان والأنف مشرع للأمام.. الملامح كلها غارقة في دوامة الغم الأزلي! اقتلعت نفسي من الكنبة واتجهت ناحيته في إصرار. لابد أن أفعلها فورا.! وفعلا استجمعت نفسي ودفعت بإصبعي في حلقه. ضغطت الزر بكل غيظي فانقطع الصوت والصورة, وأظلمت الشاشة وتراكم سوادها الكالح لامعا. وظلت زوجتي لحظات علي حالها, لاتتحرك ولا تنبس.! بدت كتمثال الكاتب المصري الصامت منذ الأزل. ثم شاطت فجأة لاعنة الدنيا وما فيها ومن فيها. تنفض هدومها عن غليان صدرها وتنفخ. فماذا جري للناس وأين ذهبت عقولهم؟ وباغتني تساؤلها وهي تقتحم عيني في غل. أين نحن بالضبط.. هه.. أتعرف أين نحن؟ ولمحت وجهي شاخصا في المرآة.. مخضبا بملامح بلاهة متأصلة. قلت آخذ زوجتي ونخرج الي الشارع. كان لابد أن أذهب بها الي أي مكان..! أي مكان.! رائحة الخضرة ونسمات الغروب. وأطياف الأضواء المشعة من الكرات الكبيرة المبعثرة علي النجيل الرطب. ورائحة الشواء المتطايرة في الجو. وبدا المنظر ساحرا. كانت ربوة حديقة نادي الزمالك عامرة بالرواد. يأكلون ويشربون ويتسامرون ويتبارزون بالشطحات السياسية. ودرنا في المكان نبحث.. ألا توجد ترابيزة واحدة خالية؟! جذبتني من ذراعي ساخطة. ألم أقل قعدة البيت هي الحل!. وإصطادتها عيني هناك. واحدة تشغل ترابيزة بجوار النافورة وبجوارها كرسيان خاليان. آه.. لقد وجدتها.! وتركت ذراع زوجتي وأسرعت.. انتظري لحظة هنا. سبقتني ابتسامتي وأنا أقترب منها وأضع يدي علي ظهر الكرسي الخالي. عفوا ممكن الكرسي؟. فاجأتني عيناها تنفذان من وراء الشال المنسدل علي رأسها, بينما شفتاها تتمتمان في تواتر متلاحق. عرفت أنها تصلي فتراجعت قليلا وانتظرت. بدت امرأة في طور الشباب عادية المظهر في كل شيء. وانتبهت الي أن أحد الكرسيين يشغله علم مصري كبير الحجم. فكرت أن أتراجع.. ولكن قدمي لم تطاوعني, ففرصة الحصول علي الكرسي لا تعوض. نادت زوجتي تتعجلني فأشرت لها أن تنتظر. وظللت أراقب حركاتها المتأنية الخاشعة وهي مستغرقة في الصلاة بكل حواسها, بينما تفلت منها النظرات الخاطفة ناحيتي بين الحين والحين.. أمازلت واقفا أراقبها؟! تواريت خلف الشجرة لأتركها علي راحتها حتي تنتهي من صلاتها. عادت زوجتي تنادي وتتعصب في حركاتها. فأشرت لها أن تنتظر وأنا أتعصب في حركاتي. وأخيرا انتهت المرأة من صلاتها. سلمت في تؤدة ذات اليمين وذات الشمال. وحين هممت بالتحرك من مكاني رأيتها تختطف الشال من فوق رأسها وتلقي به علي الكرسي الآخر. ما هذا؟ معقول ما أري؟ الشعر الطويل المتحرر علي سجيته.. والوجه الساحر المتأنق في عبقرية.. والبلوزة الحمراء الكاشفة لجمال الرقبة وانحدار الكتفين وبللورية الذراعين. ماذا يحدث أمامي وأراه بعيني؟ هل يمكن أن تكون هي نفسها التي كانت..؟! تماسكت وتقدمت مترددا. أتريدين هذا الكرسي؟ وظلت لحظات ساكنة قبل أن تهز رأسها بنعم وشعرت بالحرج والغيظ في نفس الوقت. أتحجز كرسيا للعلم وكرسيا للشال؟ ألا تري ظروف الزحام وتراعي مثلا أن...! وتوقف الكلام علي طرف لساني فمن الأجدي أن أكبر دماغي كما يقولون, وأترفع عن خوض جدال لست مهيئا له الآن أعطيتها ظهري ومشيت خطوتين فلاحقني صوتها مناديا. يا أستاذ.. أنت يا أستاذ توقفت ونظرت.. هل أرجع لها؟ وظلت منكسة الوجه وأنا أقترب منها وتركتني لحظات أنتظر قبل أن يتهادي صوتها الحالم. أتريد كرسيا.؟ قلت في استخفاف. إن كان ممكنا.! وعاد صوتها يتناغم ناعما. ألم يعد هناك كراسي في النادي؟. ورحت أجتر غيظي وأمسك نفسي.. وقبل أن تنفلت ثورتي رفعت كفها في مواجهتي. روق يا أستاذ الكلام أخذ وعطاء.. اغرس هذا العلم هنا وخذ الكرسي. غرست العلم بجوارها في النجيلة وترددت وأنا أنظر للكرسي الآخر.. هل أطلبه لزوجتي بالمرة؟. قالت وقد تصيدت ما يدور في رأسي. هذا كرسي الكابتن.. حالا سيأتي.. لابد أن يأتي. وانطلقت فجأة تشيط في الجرسون. أين الطلبات يا مسطول.. أتريدني أن أتصرف بمعرفتي كالعادة؟ لملم الجرسون ثورتها في برود ومشي. وبدأ شيء لافت يتدلي من سلسلة رقبتها المنفعلة. كان الجو باهتا والأضواء متناعسة. ما هذا.؟ أهو صليب حقا أم أنني؟! هو بالفعل صليب صغير من الفضة مطعم بفصوص رائعة التناسق والألوان.. تضوي لمعانا في غاية الوقار والجمال. ولكن كيف وقد رأيتها بعيني وهي تصلي في خشوع؟ تصلي وتتجه إلي قبلة المسلمين وتؤدي حركاتهم؟ هل أصابني شيء في أعماق النافوخ وجعلني..؟ وأعدت التطلع مرة أخري مراجعا نفسي هو بالفعل صليب دقيق الصنع يبدو أثريا.. يتدلي من السلسلة الذهبية المتأنقة الحلقات. ما هذا أيضا الذي يشتبك مع الصليب في الحلقة الأخيرة من السلسلة؟ وارتبك شيء بداخلي. ما هذا..؟ أهو مصحف صغير من الفضة؟ وسيطر الفضول علي حواسي فركزت ونظرت. هو مصحف بالتأكيد.. مصحف محلي بالزخارف والنقوش العربية الرائعة.. يبدو تحفة من بازارات خان الخليلي. انتبهت إليها وهي تسألني وقد تغاضت عن نظراتي الحائرة. بدت ابتسامتها الطفولية رقيقة وناعمة ألا تريد أن تجرب الكرسي قبل أن تأخذه؟ والتقط رأسي مشاغبتها الذكية وأنا أبحث عن مكان زوجتي كانت هناك مع المجموعة.. واقعة في تيار الجذب المغناطيسي للشاشة الصغيرة.. مجموعة متعاطي المعارك الأيديولوجية من أعضاء النادي. كلهم يتصايحون حول مستمع واحد.. يبدو تائها في ملكوت الكون! شظايا النقاش تتطاير وتتساقط علينا.. الكابتن جنش يقود فريقا. وأخوه الكابتن بشبش يقود الفريق المعارض.! الكل يكافح لاعتلاء الأعناق والرءوس فارضا عبقريته الفذة مؤكدا أحقيته بالزعامة.وكانت هي تهدهد شالها وتضمه في حنان غريزي. بينما عينها تختطف النظرات من ناحيتي. أعادت التساؤل في اصرار إن كنت أريد أن أجرب الكرسي قبل أن آخذه. طاوعتها وجلست عليه.. علي الكرسي الخالي. أمتعني براءة ابتسامتها وهي تتابع حركاتي المفتعلة وأنا أقوم باختبار إمكانات الكرسي ومتانته. مشجعة علي التمادي في هذه الحركات. والتمعت الفكرة في عينيها وهي تفاجئني ان كنت أريد أن أجر الكرسي الآخر؟ فلعله يكون الأفضل. ثم استدركت في حياء.. فقد يتأخر الكابتن ولايجيء الآن! وشعرت بتثاقل يشدني ويترسب ببدني فلم أتحرك. سألتني في تردد ان كانت تعطلني عن شيء؟ وقبل أن أتكلم بادرني صوتها مبحوحا حزينا.. بينما تنكس عينيها وتداعب الصليب والمصحف في طرف السلسلة. بدت الكلمات شائكة الأطراف تدمي جوفها وهي تستخلصها منه. النذل.. لم أر في حياتي نذالة بهذه الدرجة!. انكمشت في الكرسي تقاوم الارتعاشة المفاجئة وتردد بأسي.. فهي كانت صاحبة الفكرة التي انتشلت الكابتن النذل من حضيض الأرض لتطلقه الي عنان السماء. وهي كانت صاحبة رأس المال الذي بث قبلة الحياة في شرايينه وأعاد نبضها للحياة. وبعدها.. أتعرف ماذا حدث بعدها؟ وسقطت قطرات مرتعدة علي المفرش الناصع فبللته. وراحت تتسع وتتسع وتتمدد! داعبت أناملها أطراف العلم في عصبية.. وبدأ صوتها يستحلب توتر صدرها في اشفاق. فهي التي أخذت الكابتن بيدها الي هناك.. الي حشد ميدان التحرير.. وهي التي اختارت له المكان الخرافي ورسمت له الخطة العبقرية التي لا تخر نقطة الماء... فكوب الشاي يتكلف ربع جنيه علي الأكثر.. وصاحب الكيف لا يضلعه أن يدفع فيه جنيهين او ثلاثة.. ومتوسط رواد الميدان لايقلون عن ربع مليون دماغ.. ربع مليون زعيم من الثوار أصحاب الكيف العالي. ربع مليون خرمان في اليوم الواحد يتزاحمون في الميدان! احسبها بقي براحتك يا أستاذ. كم يدخل جيب الكابتن النذل في الشهر؟.. هه.. كم مليون تعتقد؟ وانتفضت متشنجة ونزعت العلم من النجيلة. فهي لم تحب رجلا في حياتها كما أحبته! ولم تعط مخلوقا في حياتها كما أعطته. وراحت تطعن النجيل الرطب بسن العلم في غيظ. فلن تتركه يخونها ويزوغ منها بهذه السفالة. فقد عرفت مكانه وعرفت العفريتة السوداء التي جرته الي هناك.! وشدني هياج المعركة الدائرة بجوارنا.. حيث كانت زوجتي. اختطف الكابتن جنش جهاز التليفزيون وطوحه ناحية أخيه بشبش.. واختطف الكابتن بشبش عصا الهوكي وهجم علي رأس أخيه جنش.. وراحت الأيدي والأصوات والكراسي والأدوات تتعارك وتتطاير في عشوائية وتملأ الأجواء؟. وانتبهت منزعجا.. فأين ذهبت زوجتي؟.. أين اختفت؟ ليست هناك عند المعركة! وكانت المرأة تتململ في كرسيها وتناوش العلم برجلها بينما ينفلت الكلام من فمها.. فالكابتن جنش يساري متشدد, وأخوه الكابتن بشبش علماني متطرف.. النادي تحول الي مستنقع جيفات.. هي تعرف كل هذه الأصناف وربتها علي يدها هذه! واصطدت عيون زوجتي أخيرا.. كانت متحوصلة حول شاشة كبيرة تحت حمام السباحة, مع مجموعة من العيون الواقعة في شبكة الأسر الاعلامي. مدت المرأة طبق الترمس ناحيتي. إعطها سنة تسلية يا أستاذ.. إعطها ترمس تعطيك طراوة! وبدت عيناها تسبحان في ملكوت الرحمن.. تغوصان بالرأس في عبقرية الزمان والمكان اللامتناهية وتستحلبان ما وراء العقل. وأطبقت علي يدي فجأة في عفوية. مؤكدة أن دماءها هي نصف مصرية.. تصور؟! وراحت تداعب الصليب والمصحف بين أناملها. وتتمسحهما بشفتيها في تلذذ طفولي. فالأب كان مصريا أصيل الجنسية ومسلما من أبناء الحسين. والأم كانت تشيكية أصيلة الجنسية ومسيحية من ريف السلوفاك. كانا مخلوقين رائعين. لم تعرف البشرية محبة وترابطا وانسجاما كما عرفها أبواها. ولم تحظ ابنة بنبع حنان كما حظيت هي منهما تحابا في اخلاص نادر وأحبا هذا البلد. ولكنهما ذهبا للأسف وتركاها.! وحين ماتا تسربت من صدرها نبضات حياتها الحقيقية فلم تعد تستشعرها.! وتحسر صوتها أنينا شجيا. فقد اختطفهما القدر في حادثة فظيعة.. وماتا متداخلين كما عاشا متداخلين. وتمادي بريق عينيها يتشرب لمعان الصليب وهي تضمه بتشوق شفتيها. صليب أمي رحمها الله. وخشعت نظرتها في رحاب المصحف وشفتاها تضمه بنفس التشوق مصحف أبي رحمه الله. وفاجأت نسمة الهواء خمول الأوراق المحبطة علي أكتاف الفروع. وقفت ثم جلست في تردد وهي تنفخ في ضيق. هبت في ثبات وراحت تلملم أشياءها من حولها. سأذهب الآن.. لن يأتيني أحد.! ولم أجد ما أقوله لها.. ولم أجد أي حماس أتحرك به من مكاني. أحسست بنفايا الصدور تتراكم من حولي. زفرات صاهدة بمرارة الانكسار.. وكأن صلابة الأرض تتراخي تحت قدمي.. تنذر بالابتلاع. ولم أعرف كيف جرؤت.. ومن أعطاني الحق في أن أنطق بها متسائلا. إلي أين تذهبين.؟ بدت مهزومة.. تكلم شخصا آخر يقف من خلفي. انساق النذل وراءها لميدان رابعة.. لن أتركه هذه المرة.! وقبل أن تعطيني ظهرها وتذهب فاجأنا الطفل صاخبا مهللا. تسابقه كركرة ضحكته الرائعة تموج بالفرحة يضرب بكفيه الصغيرتين رخامة المكان الهامد. مناوشا تلال الإحباطات المتناثرة علي النجيل. بينما تعكس إشراقة وجهه البرئ أطياف الأضواء في عفوية طفولية. اختطف عصا العلم منها وراح يجري في حماس متدفق.. يجري ويتعثر علي النجيل.. ويقوم ويرفع العلم في مجاهدة.. ويجري ملوحا بالعلم بكلتا يديه الصغيرتين في سعادة متوهجة. مرددا ببكارة صوته المتعثر. تح.. تح.. تحيا مصر. تح.. تح.. تحيا مصر. وظل يدور من حولنا ويكركر بضحكته ويدور. فاجأنا وطار بالعلم إلي هناك.. متخفيا بين الأشجار.. ومن ورائه صخب أطفال يلاحقونه. تلاقت نظراتنا الجياشة قبل أن تعطيني ظهرها.. و.. وتذهب.