التقط السماعة فيأتيني صوتها مرتعشا أكرر تساؤلي فتعود تهمهم ويتقطع صوتها في البكاء حروفا وشهقات تريدني اليوم.. تريدني فورا. فالمسألة لا تحتمل التهاون! من عيني يا خالتي.. فورا أكون عندك. أختطف من ملابسي في تلهف. يستاء وجه زوجتي وهي تراقبني.. فماذا يجري في الدنيا؟ ثم أين أولادها؟ أليسوا الأولي بهذا القلق؟ لا أعبأ بكلامها فتتسرب من مدخل آخر لتمتص حماسي. فصحتي لا تحتمل الطلوع للدور الرابع.. ومشاكل القلب والضغط والسكر كلها أمور لا تعبأ بالظروف الإنسانية. أتركها وأنطلق خارجا الي خالتي! زحام الشارع والرأس مشغول بنفس التساؤل. ماذا لو وجدتها ميتة في شقتها؟ كيف أتصرف والي أين أذهب؟ أحمل الكنتالوب الذي تحبه وأصعد درجات السلم ثقيلة ترهق المفاصل. سبق أن هدني هذا السلم ونحن نحملها بكرسيها للمستشفي. صعودا وهبوطا. أضغط الجرس وانتظر. يطول الوقت ولا شيء بالداخل. أعيد الضغط وأري شباك المنور مغلقا. أطرق بيدي مرة.. ومرة.. ومرات. يراودني القلق.. فأين يمكن أن تكون؟ يأتيني صوت عصاتها تنقر البلاط في تواتر يرافق الأنين الممطوط. يتردد تساؤلها واهنا وهي تجاهد ترباس الباب. وتطمئن لصوتي فتفتح وتستند للحائط. أين أنت يا بني ؟ أميل عليها وآخذها في أحضاني. كومة عظام سائبة تحزمها عروق نافرة وجلد مجعد أهم برفعها فتتمنع وتدير رقبتها علي أخرها. وتطل بنظرة العتاب من تحت جفنيها. انتظرتك طويلا! وتعود تنقر الأرض الي كرسيها. وأدخل في ملاطفتها ورعشة كفها تتوسد يدي. عيناها منطفئتان وهي تتلفت في توجس.. وكأنها تتوقع شيئا مزعجا يدنو منها! أسألها عما يقلقها فتشرد في فراغ الشقة. وتهمس وهي تستمهلني.. فسأري وأسمع كل شيء بنفسي. تطلب صينية الطعام من الثلاجة.. وتمصمص بشفتيها وهي تراني أعافر مع بابها المعاند. كتر خيرها.. بنت أصل. وتذكرني بيوم وصول الثلاجة من أمريكا.. برفقة المرحوم يوم الاحتفال بعيد الثورة الثالث.. والدنيا مقلوبة في الشوارع! تتلمس الزبادي والجبن القريش والزيتون والمربي.. وترفع الغطاء عن قطعة المكرونة وربع الفرخة. تبحث يدها الأخري عن علبة الأدوية بجوارها. تستعطفني لكي آكل معها. وأحاول التملص من عملية الأكل فإنني.. وإنني.. وإنني! وترغرغ عيناها وتنكسران فجأة.. وينسلخ صوتها في الحلق. أتعرف من متي لم يأكل معي أحد؟ وتبادر يدي للصينية رغما عني.. فينفرج وجهها وتجري فيه الدماء من جديد وهي تقول: أنت المكرونة والفراخ.. والباقي لخالتك. وأسألها عن أولادها فتتوقف اللقمة عند فمها. البنت تأتيها كل أسبوع.. ترمي ما تحمله في الثلاجة.. تربت ظهرها وتخطف عدة قبلات.. فالزوج والأولاد والعمل والزحام والفوضي والأسعار.. ثم تنفلت جريا قبل أن تخرب الدنيا. وتعيد اللقمة للصينية وتسكت قليلا. ثم تنز المرارة من كلامها.. فالولد الكبير يتصل كل حين وآخر من الإمارات.. في رقبته كوم لحم وكوم عوانس.. وظروف البلد لا تشجع علي العودة..! وأحاول أن أهون عليها المسائل.. فالبركة في عمرو آخر العنقود. وتزيد انكفاءتها فتكاد تلامس الصينية. فالمسكين واقع في شباك زوجته المتسلطة.. عيني عليه قليل الحيلة ولا يستطيع الفكاك منها..! يدوب يتصل كل شهر أوشهرين! ويسري الشياط بداخلي.. كيف يطاوعه قلبه.. ؟ مع من تتكلم طوال يومها.. ؟ معقول يا خالتي كل شهر أوشهرين.. ؟ وتأخذ يدي بين يديها وينهمر نشجيها.. تحذرني من ملامسة الولد ابن الخمسين عاما بأي عتاب... فهو إنسان حساس للغاية, وقد يروح فيها.. قلب أمك يا عمرو..! أخرج من المطبخ ومعي كوب الشاي. وهي تمسح نظارتها وتعبث بالكاسيت بجوارها. تخطف نظرات مرتبكة إلي باب الشقة وإلي الشباك. أسألها مداعبا إن كانت تنتظر أحدا. ؟ فتهز رأسها مؤكدة.. ستراه... سيأتي وتراه بنفسك. وأواصل المداعبة.. إن كان حبيب القلب لا يأتيها قبل العاشرة.. ؟ تنتهد في استكانة وتطلب مني أن أشغل الكاسيت. تستسلم منتشية وأنا أقبل رقبتها مرواغا لمشاعرها بتساؤلي إن كان هذا شريط الحب كده لأم كلثوم. ؟ وتبدو تائهة وهي تهمس إنه شريط سورة البقرة.. نصحوها به ليطرد الشر من البيت أليس صحيحا.. ؟ وأطاوعها وأشغل الجهاز. يتحرك الشريط ولا يأتي صوت المقرئ.. تبدو أصوات شوشرة وصياح وموتورات وكلاكسات. وتدوس علي يدي مؤكدة. أرأيت.. مسح الشريط..! وأسألها وأنا أحاول مع الجهاز.. فمن الذي مسح الشريط ؟ ويرتفع فجأة صوت المقرئ بسورة البقرة وتنتفض كلها. كيف شغلته.. ؟ وأشرح لها كيف أنها داست بالخطأ فمسحت جزءا من الشريط وسجلت ضوضاء الشارع. وتتردد في الاقتناع وهي ساهمة..! يجوز.. يمكن يا بني. ** منتصف الليل وترجوني أن أبيت معها الليلة. ليس لأنها تخاف منه, ولكن لتثبت لي أنا بالذات, أنا الإنسان المتعلم المتزن أنه يأتيها بالفعل. وأن ما تراه هو الحقيقة.. هو الواقع وليست هلوسات تأكل الدماغ كما يدعي الجيران. وتدخل مباشرة في البكاء.. لتقطع أمامي خط الرجعة علي محاولة التملص من البيات معها. وأوجوها مشفقا أن تخبرني عنه.. هذا الذي يأتيها وتراه بعينيها...! تتحامل علي عصاتها للحمام. تطلب مني أن أقعد عند الباب.. فقد يفاجئها قبل أن تستر نفسها.! وأقعد انتظرها علي باب الحمام. وتعود التساؤلات تشغلني.. عن وحدتها التي تأكلها يوميا فيما بين السرير والكرسي والحمام. ماذا لو تعثرت فلم تستطع النهوض.. ؟ وكيف تسعفها شغالتها الخرساء وهي إن أعطتها ظهرها انقطع كل اتصال بينهما تماما..! ** تستغفر في توجس وهي تنصت لآذان الفجر. تمسح من تحت النظارة عينيها وتتلفت. تسألني إن كنت أري شيئا.. ؟ وأري في وجهها ملامح أمي عندما يركبها الخوف. أتوسد عظام صدرها وأقرأ الفاتحة لأمي. أطمئنها أن لا شيء معنا إلا الله وحده.. وأهم بها لكي نصلي الفجر. أشعر بقلقها من خلفي وأنا أتلو القرآن. تلاحقني بتلاوتها المرتعشة ثم تسكت وتعلو أنفاسها. وتبادرني بمجرد إنتهاء الصلاة. أرأيته.؟ أرأيته بعينك.؟ ويصدمها وجهي المشفق عليها فتواصل. كان ممددا هنا علي الكنبة.. بجوارنا ونحن نصلي.. ألم تره.؟ وأخاف أن أرهقها أكثر فأهز رأسي مطاوعا.. نعم رأيته.! وتسحب أنفاسها من العمق وهي تؤكد أن ما رأته عيني الآن هو ما يأتيها كل يوم ويفزعها.! يدخل ويخرج برغم منافذ الشقة المغلقة. ويأخذ الحماس وهي تستشهد بي.. وإن كنت رأيت عينه الحمرة, وأنفه المدخنة, وفمه السوسته من الفك للفك, وأذنه المطرحة.! وتشدني إليها وعينها مصوبة للكنبة. يشبه الإنسان الآلي.. أليس كذلك.؟ وأتوه في الكلمة.. الإنسان الآلي؟! ويتعقد وجهها ويزداد ضيقا.. وهي ترفع عصاتها وتغز بسنها هواء الفراغ. ألا تري نظراته وحركاته وسماجته.؟ وأروح أداعبها وأقبلها وأقرب من فمها قطعة الكنتالوب. أهي وصلت للإنسان الآلي يا خالتي.؟ وآخذها إلي السرير.. وأبدأ في تنفيذ تعليماتها بالحرف.. أدلك الذراعين والرجلين بالدهان. وترفض بشدة أن أقترب من بطنها وتخطف العلبة من يدي. تأمرني وعلي وجهها خلجات إستحياء. خذ عينيك للناحية الثانية.! ثم أقطر لها سبع نقاط من الزجاجة الخضراء في كل عين.. وأضع علي كل منها قطعة قطن صغيرة. وأتمدد بجوارها علي السرير.. وتمد يدها لتطمئن لوجودي. المصباح يتدلي فوق رأسها محاصرا وجهها بالضوء الملتمع. حذرتني أن أطفيء النور أو أن أفتح منفذا للهواء.. وهي تركن عصاتها بجوارها. السكون ثقيل.. وأنا أتماسك لكي لا أمسها. تستكين أنفاسها ويتراخي بدنها. أحمد الله وأدخل في ورد النوم.. يزداد السكون رخامة وضيقا. وتنتفض فجأة فيسقط القطن عن عينيها.. وتتسع جفونها فتتشرب الضوء المنسكب. تتعقد ملامحها المشدودة إلي الباب.. بينما تشهر عصاتها وتغز بسنها هواء الفراغ. إهمد بقي الله يلعنك.! وألوذ بالصمت.. أدعي الإغراق في النوم. كيف يكون دماغها بهذا الوعي وينجرف لمثل هذه الهلوسات.؟ ترتعش شفتيها في خشوع وتستسلم للنوم. راح خلاص.. الحمد لله.! راح خلاص.. الحمد لله. أهم بالقيام للشراب.. أو للهواء.. أو لهرش ظهري. وتحوم عيني حول مصباح السقف.. أتراجع وأتراخي في مكاني. تتشرب جفوني الضوء المتوهج في صمت متصل. يتخدر الرأس ويتداعي في غير إرادة. وأراني ممدودا في مكعب من جليد بللوري. في جوف المكعب وبؤرته. شاخص العينين مشلول الحركة منقطع الأنفاس. المكعب الجليدي يزداد برودة وضغطا. ويعود مصباح السقف يتأرجح من فوقي. تتميع أضواؤه وتتمازج وتتمايل.. تتقاطر قريبا بدون صوت. القطرة تعلو القطرة.. تتماسك بها.. تتشكل معها. القطرات ترتفع وتتجسد علي هيئة كائن مرسوم. لا أستطيع أن أتلفت, أو أن أغمض عيني, أو أن أفتح فمي. الكائن المرسوم يبدو إنسانا ضخما.. ينمو ويرتفع إلي جواري. وتدب فيه الروح فجأة فينتفض ويتعاظم. يقترب ويميل علي سطح الجليد. يضع رأسه فوق رأسي وينظر بقوة. ويتصلب ويتسع بؤؤ العين وأنا أرتعش بدون حركة. ويدخلني ويسري بداخلي.. فأري عينه الجمرة, وأنفه المدخنة, وفمه السوسته من الفك للفك, وأذنه المطرحة.! هو الإنسان الآلي.! وأتفزع وأتململ وأحتشد.. هو بعينه الإنسان الآلي. أحتشد بكل طاقتي وأطلقها.. يا رب.!! ويتناسف مكعب الجليد ويتطاير ندفا في الجو. يلفظني مرتعدا مبهوتا. وأنتبه أنني مازالت بجوار خالتي. وهي شاخصة العينين إلي المصباح وفمها يردد أصوات النوم. أعوذ بالله.. كابوس فظيع.! أجفف عرقي وأقوم لأشرب. أتخايل بشيء وأنا أغلق باب الثلاجة. أفاجأ به ممدودا علي الكنبة يرمقني في سخرية. عينه الجمرة, وأنفه المدخنة, وفمه السوسته من الفك للفك, وأذنه المطرحة.! التقط عصا خالتي في ذهول وأصوب سنها إليه. أتقدم منه خطوة.. وخطوة لكي أغزه في مقتل.!!