فرضت أحداث عنف الجامعات تساؤلات كثيرة جاءت علي لسان كبار الكتاب والإعلاميين عن دور الأباء والأمهات في توجيه أبنائهم.. وتساءل البعض كيف يسمح الآباء لبناتهم بالوصول إلي هذه الدرجة من العنف والبلطجة؟.. الإجابة ببساطة أنه لم يعد للأب سيطرة علي ابنه أو بنته اللهم إلا الأب الإخواني الذي ربي أبناءه وربته الجماعة قبلهما علي السمع والطاعة. السؤال الأخطر.. قبل أن نطالب الآباء بأن يمارسوا الوالدية الحقة علي أبنائهم وينصحونهم ويقتنعون ويستجيبون.. كم أبا من حولنا يعرف معني أن يكون أبا؟ عندما نتحدث عن التربية عادة ما يكون الحديث موجها للأمهات كما لو كانت الأم تربي وحدها, نادرا ما نسمع أحدا يتحدث عن الأب, رغم أن دوره معادلا لدور الأم ومساويا له تماما! لم يعد دور الأب في حياة الأسرة كما كان قبل ثلاثين عاما, فالحياة تغيرت, والمفاهيم أيضا تغيرت.. والنتائج هي الأخري تغيرت. ففي الماضي كان دور الأب منحصرا في أداء الواجبات المنزلية والاحتياجات المادية, وتأمين الدخل المادي وحماية الأسرة وتوفير اللوازم الأساسية. في الماضي لم يكن هناك احتكاك بين الأب والأبناء, كان الأب ما بيتشافش, وكثير ما كانت مكانة الأب أو سلطته مصدرا مهما للتهديد بالعقاب, حتي ولو لم يعاقب! ولسنوات عدة مضت كان التركيز الاجتماعي أكثر علي علاقة الأم بأطفالها وأهمية وجودها في حياتهم للاهتمام بهم ورعايتهم, وهذا بسبب التعود علي أن الأم هي المسئول الرئيسي عن رعاية الأطفال منذ ولادتهم, وحاجتهم للالتصاق بها للإحساس بالحنان والحب والرعاية. كان القول الأكثر انتشارا الأم مدرسة إن أعددتها..., مع أن الأب مدرسة هو الآخر. وبمرور الوقت, وتغير المفاهيم, وتعدد المخاطر أيضا, بدا أن تلك المدرسة أصبحت في حاجة إلي إعادة تقييم, أو قل إعادة دراسة من جديد, خصوصا وأن الغالبية من الآباء مازالوا يرون أن الأب يعني فلوس.. وما دامت الفلوس موجودة, فالأب إذا موجود, لكن نظريات علم النفس تقول العكس. اليوم حتي الأب التقليدي اللهو الخفي الذي تهدد به الأم أطفالها, لم يعد موجودا.. أصبح الأب الحاضر الغائب. ولأننا طوال الوقت لا نتحدث عن التربية إلا للبنات والأمهات.. نادرا ما تجد رجلا يعلم ما هو دوره علي وجه التحديد في التربية.. كثير من الآباء عندما قد يعرفون أن الابن اللي طلع من البيضة إمبارح يدخن السجائر أو يشاهد أفلاما لا تناسب عمره أو ملموم علي شلة بايظ.. ويعتقد أن دوره أن يرن الولد علقة وبعضهم أو أن يتظاهر بأنه لا يعلم لأنه أصلا لا يعرف كيف يتصرف. بعض الآباء يصفهم د.خليل فاضل استشاري الطب النفسي الشهير بالأب حبة اللقاح فدوره انتهي لحظة تلقيح بويضة الأم, وكثير من الآباء تنعدم لديهم الثقافة الوالدية.. فداخل كل إنسان أب وأم لابد أن يرتقي ويكبر مع نمو كل شخص فينا.. عندما يختل دور الأب يبقي شرخا في الشخصية, يكبر ويكبر كل يوم.. تقول أغلب نظريات علم نفس الأطفال إن مفهوم الأب, أبعد ما يكون عن توفير المادة, ومتطلبات الحياة. نظرية الدعم الأبوي المالي, باعتبارها أساسا لمعني الأبوة, ليس فقط لم تعد صحيحة إنما أصبح التعلق بها والاستمرار في التربية علي أساسها هو الخطير, فوجود الأب يعني الحماية يعني الرعاية يعني السلطة, في مفهوم تتحدث عنه مدارس علم النفس هو التكامل الأسري. وبالرغم من أن الأم هي الأساس في حياة الطفل منذ الولادة, فإن دور الأب يبقي مهما من نوع آخر, فيقدم الحنان الأبوي ويمارس نطاق الحماية علي طفله, من كل أذي بالتواصل. ليس الآباء وحدهم من لا يفهمون هذا الدور, إنما كثير من الأمهات أيضا, يعتقدن هن الآخريات أن دور الرجل اليوم كما كان في الماضي, أو كما كان معروفا عنه, قبل سنوات. وأنه لا يجب أن يتعدي الاهتمام بتأمين السكن والملبس والمصاريف, وأغلب الأسر, لا تفطن إلي هذا الخطأ الفادح في عدم اعتبار مشاركة الأب في تربية الأبناء يؤثر بالسلب في شخصياتهم, ولا يوجد الجو الأسري المناسب لتنشئة جيل متوازن نفسيا وعاطفيا. بعض الرجال أيضا, وكذلك الأمهات, مازالوا يعتقدون أن معني مركز رب الأسرة يعني ممارسة الديكتاتورية وتعمد السيطرة.. والحزم فقط, وهو ما يؤدي إلي سلبيات أخري.. يعني السلبيات ليست من عدم وجود الأب فقط, إنما بوجوده بطريقة خاطئة أو بمعتقدات غير صحيحة عن حقيقة هذا الوجود. فالأب في الأساس, هو مصدر السلطة في البيت, والسلطة مفهوم مهم في تربية الأطفال. والسلطة ليست مرادفا للسيطرة, كما يعتقد أغلب الناس, إنما هي إحدي مباديء التربية, التي يعتبر الأب.. أحد مقوماتها, وعامل مهم لإرشاد الأطفال وتقويمهم إذا انحرف أحد منهم, واستخدام الشدة والحزم إلي جانب الرفق والتسامح. فإحساس الأبناء بوجود رادع, يجعلهم علي حذر من الوقوع في الخطأ. واقتراب الأب من أبنائه وتمضية الوقت الكافي معهم ومحاولة تفهم مشاكلهم وطلباتهم والنقاش معهم يعطيهم الثقة بالنفس وبأن لديهم الصدر الحنون الذي يلجأون له عندما يصعب عليهم حل مشاكلهم بأنفسهم, فيبعد بهذا عنهم شبح الضياع والتوهان وحل الأمور الصعبة بالطريقة الخاطئة التي قد تؤدي بهم إلي طريق السوء. وكما يقول د.خليل فاضل فالعبرة ليست بحجم الوقت الذي يمضيه الأب مع أبنائه ولكنها بجودة الوقت. فوجود الأب لابد أن يعطي إحساسا للأبناء بوجود المصلح لأخطائهم والراعي لشئونهم بما يرونه في قوة شخصيته التي يحملها, بأن يرفق وقت الرفق ويحزم عندما يتطلب الحزم وغيرها من مواطن التربية التي يكون بها الأب أقرب ما يكون لأبنائه من الأم. فالأب, متفهم أكثر لمشاكل الأطفال, ومن ثم يعطيهم الثقة بالنفس ويعزز قدراتهم علي اتخاذ القرارات في المواقف التي تمر بهم في حياتهم علي مختلف مراحلها. نعم يكون احتياج الأبناء للأم, لكن في سن معينة يكون الأب هو الأقرب. فالعلاقة الجيدة مع الأب تؤدي إلي استقرار نفسي وعاطفي للأبناء والبنات وينتج عنه ارتفاع مستواهم الدراسي وبناء شخصيتهم علي اتخاذ أدوارهم في الحياة بشكل سليم ولا تتوقف هذه العلاقة علي الوجود فقط بل هي في مدي التواصل من جهة الأب مع الأبناء. يتفق المراقبون- من أهل الفكر والاجتماعيين- أن أهم أسباب, مشكلاتنا الاجتماعية, وما نشهده من اضطرابات في الشارع وفي السياسة, بعدما رفعت ثورات الربيع العربي من نغمة إلغاء الدور الأبوي.. هي تغير النظرة لمفهوم الأب, باعتبار أن الأبوية مرادفا للديكتاتورية. انساق المجتمع وراء دعوات إلغاء المجتمع الأبوي باسم الثورة, كثير من الاجتماعيين يرون أن المجتمع العربي يعاني يوما بعد يوم, بعد ظهور علامات افتقاد الأب بمعناه الأرحب والأشمل والأفضل.. افتقاد وجوده النفسي والمعنوي, بل النوعي المتميز مقارنة بأجيال مضت. ويمكن وصف الأب في محيط أسرته كالبطل الذي ينجز جميع المهمات ويعوض جميع النواقص. ولأنه لا بد من توفير المقدمات التي يتطلبها تحقيق الأمن للطفل, ينبغي علي الأب أن يقوم بدوره في هذا المجال بأحسن شكل. وكما للأم دور مهم في تربية الطفل فللأب أيضا دور. أبعاد هذا الدور الذي تلعبه السلطة الأبوية إذا كان الأب موجودا أو غائبا, يتمثل في تكوين وتحديد معالم الشخصية المستقبلية للطفل, إلي حد يمكننا فيه رد سلوك الطفل, المستقبلي وشخصيته في معظمها إلي هذه السلطة الأبوية. فيصبح الأب ملاذ الأسرة وحاميها, وهو يمارس هذا المفهوم بصورة عملية, انطلاقا من اليقين بأن الأولاد بحاجة إلي دعمه وحمايته, وأنهم سوف يشعرون باليأس فيما لو أدركوا أن الأب عاجز عن تحقيق ذلك.. إذ ما فائدة توفير الحاجات المادية فيما لو لم يتمكن الأب من توفير الأمن إلي جانبها؟ لذلك فإن الإحساس بالوجود الحقيقي للأب كعنصر أمان, هو الإجابة علي السؤال: كيف يمكن أن تكون أبا جيدا؟.. أو ما هي مواصفات الأب الحقيقي. معني أن تكون أبا.. ألا تقف خلف خلاف مع والدتهم فإذا قالت يمينا.. قلت أنت شمالا لتكسب ودهم وتكون أنت الأب الطيب الذي يحبونه أكثر.. معني أن تكون أبا أن تكون حاضرا في كل لحظة من لحظات حياتهم..