في سعيها الحثيث لإجهاض إنجاز المرحلة الأولي من مراحل خريطة المستقبل; والمتمثلة في إقرار الدستور, فإن جماعة الإخوان( التي جري إعلانها جماعة إرهابية في مصر أخيرا), ومعها كل العاملين تحت مظلتها من جماعات الإسلام السياسي قد أداروا طاحونة دعايتهم ضد الدستور علي دعوي أنه يتعارض مع مقررات الشريعة والأعراف المستقرة للمسلمين علي العموم. وهنا فإنهم قد اختاروا أن يكون ما ورد في الدستور بخصوص المرأة بالذات, هو الدليل علي ما يقولون إنه التعارض بين الشريعة والدستور. فإذ يقرر الدستور مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية; علي نحو ما يقضي به منطق الدولة الحديثة, فإن الدعاية الإسلاميون قد انشغلت بتهييج الجمهور ضد هذا المبدأ بدعوي تعارضه مع ما تقرره الشريعة من وجوب التمييز بين الرجل والمرأة. وهكذا يكون الإسلاميون قد اختاروا التأكيد, مرة أخري, علي أن مسألة المرأة هي الساحة الرخوة التي ينعكس فوقها التعارض بين الإسلام والحداثة. فإذ يسعي هذا الدستور إلي استيفاء ما يجعله داعما للسعي المصري للدخول إلي عصر الحداثة الحقة; عبر إسقاط كل أشكال التمييز بين الناس علي أساس النوع أو الدين أو المذهب أو العرق أو المكانة الاجتماعية, فإن الإسلاميين يأبون إلا الادعاء بتعارضه مع الشريعة; وبما يعنيه ذلك من تثبيت فكرة التعارض بين الإسلام والحداثة. ولعلهم بذلك يؤكدون أن خروجهم من المشهد كان ضروريا, لأن الإسلام ليس في حاجة إلي أن يضعوه في تعارض مع الحداثة وقيم العصر, بقدر ما هو في مسيس الحاجة إلي من يعلقون هذه التعارضات ويقومون برفعها. ومن حسن الحظ أن ما يتصورون أنها تقريرات الشريعة بوجوب التمييز ضد المرأة ليست شيئا إلا قواعد التقليد الاجتماعي والأعراف المستقرة علي مدي القرون التي قصد القرآن- بحسب ما تكشف القراءة المتعمقة له- إلي خلخلتها, أو حتي رفعها. لكنه يبدو أن هذه القواعد الراسخة قد أمسكت بخناق الثقافة التي تحققت لها الهيمنة في الإسلام; وهي الثقافة التي مارست ضغوطها الهائلة علي القرآن ليسكت عما يؤدي إلي رفع تلك القواعد المتوارثة. وإذا كان هذا الإسكات قد تحقق من خلال آليات النسخ والإجماع, فإن ما جري الاستقرار عليه من ترتيب علاقة السنة بالقرآن علي النحو الذي تكون فيه السنة حاكمة علي القرآن قد كان هو الآلية الأخطر; وخصوصا بعد ما جري من التعالي بالسنة إلي مقام الوحي من جهة, وما تبع ذلك من تثبيت حجية خبر الواحد علي النحو الذي أدي إلي ما شهدته من التضخم والاتساع الهائل. وقد بدأ هذا التضخم في منظومة الأخبار مع الإمام أحمد ابن حنبل الذي اتسع مسنده ليتضمن نحو أربعين ألف حديث; قيل انه انتقاها من مليون حديث أمسكت بها حافظته, ودخلت جميعها في فئة السنة الحاكمة علي القرآن. فقد قرر ابن حنبل- حسب باحث كبير- أن طلب علم القرآن يكون عن طريق السنة, وأن طلب الدين يكون عن طريق السنة, وأن الطريق المعبد لطلب فقه الإسلام وشرائعه الحق هو السنة نفسها, وأن الذين يقتصرون علي الكتاب من غير الاستعانة بالسنة في بيان وتعرف شرائعه يضلون سواء السبيل; وبما يعنيه ذلك من الوضع المركزي الحاكم للسنة علي الكتاب. ولعل مقارنة بين عدد ما ورد في موطأ ابن مالك من الأخبار المنسوبة إلي النبي الكريم( والتي تجاوزت الستمائة حديث بقليل) وبين عدد ما ورد منها في مسند ابن حنبل( والذي بلغ أربعين ألف حديث) ليقطع بما جري من تضخم المنظومة الخبرية علي هذا النحو الهائل. والمهم أن هذه المنظومة الخبرية التي جري إدراجها تحت مظلة السنة قد أصبحت- حسب ابن حنبل- هي الطريق الذي لابد أن يدخل منه المرء لطلب علم القرآن والدين والفقه والشريعة, وإلا فإنه يمضي في طريق الضلالة. ولقد كان ذلك هو الذي فتح الباب أمام استمرار قواعد التقليد الاجتماعي والعرفي المتوارثة; والتي جاء القرآن يسعي إلي زحزحتها. وبالطبع فإن التمييز بين الرجل والمرأة قد كان من بين ما جاء القرآن يسعي إلي زحزحته, ولكن هذه القواعد المتوارثة قد استطاعت تحييده; وعلي النحو الذي انتهي- وللمفارقة- إلي اعتبارها من مقررات القرآن نفسه. فقد انفتح الباب أمام ضروب من الأحكام التي تكرس التمييز ضد المرأة; والتي لا مستند لها إلا تلك المنظومة الخبرية الواسعة المتخفية تحت قناع السنة. وحين كانت تخلو تلك المنظومة الخبرية مما يسند هذه التقاليد, فإن عمليات توجيه القرآن نحو تثبيتها كانت تتم من خلال آلية الإجماع بالذات. فكثيرا ما كان يلجأ المفسر أو الفقيه, حين لا يجد في منظومة الأخبار ما يدعم مقاصده إلي تثبيت التقليد, إلي رفع سلاح إجماع جمهور العلماء ليخفي خلفه مقاصده; ومن دون أن يسأل عن الأصل في هذا الإجماع. وكمثال علي ما يفعله التقليد المتوارث الخاص بالتمييز ضد المرأة بالقرآن; فإنه يمكن الإشارة إلي ما جري من الاستناد إلي آية وليس الذكر كالأنثي- آل عمران:36 في تثبيت خطاب التمييز ضد المرأة, بوصفه خطابا من الله. وهنا فإن وجه الغرابة يأتي من أن قراءة موضوعية لتلك الآية تنتهي, لا محالة, إلي أن خطاب التمييز ضد المرأة ليس أبدا من الله. ولعل نقطة البدء في هذه القراءة تنطلق من الوعي بأن آية وليس الذكر كالأنثي قد وردت في سياق حواري بين الله( جل جلاله) من جهة, وبين امرأة عمران من جهة أخري. وفي سياق هذا الحوار فإن النطق بهذه الآية قد ورد علي لسان امرأة عمران, وليس علي لسان الله ذاته; وبما يعنيه ذلك من أنها تعبر عن وجهة نظر إنسانية, وليست إلهية. إن ذلك يعني أن خطاب التمييز ضد الأنثي ليس خطابا إلهيا يرسخ الله بمقتضاه هذا التمييز, بقدر ما هو خطاب إنساني يعبر عن واقع تعيشه امرأة عمران التي نطقت به. فإن ما جعل امرأة عمران تنطق بهذا التمييز هو ما تعرفه, كخبرة معاشة, من أن مجتمعها قد جعل خدمة الكنائس عرفا في الذكور خاصة; وبما يعنيه ذلك من ترسيخ أفضلية الذكر علي الأنثي. إن ذلك يعني أن المجتمع هو الذي لا يقبل أن تقوم الأنثي بالخدمة في المعبد; وبما يرتبه علي ذلك من تدني مكانتها مقارنة بالذكر. وحين يدرك المرء أن الله قد تقبل أن تقوم الأنثي بالخدمة في المعبد( فتقبلها ربها بقبول حسن), فإن ذلك يعني أنه لا يتبني خطاب الحط من الأنثي والتمييز ضدها; وإلي الحد الذي جعل الرازي يري إمكانية أن يكون في الآية إشارة إلي أفضلية الأنثي علي الذكر. لكن القراءة التي استقرت عند الجمهور كانت هي القراءة التي خضت لتوجيه التقليد الراسخ في الحط من الأنثي; وهو ما ظهر في قراءة الشافعية لتلك الآية علي أنها دالة علي أفضلية الذكر علي الأنثي. لمزيد من مقالات د.على مبروك