في مشهد لا يخلو من عبرة وقف السياسي الإشتراكي المخضرم ووزير الخارجية الألماني القديم- الجديد فرانك فالتر شتاينماير في مقر وزارة الخارجية الالمانية قبل ايام من إنتهاء عام2013 ليتسلم مفتاح الوزارة من سلفه جيدو فيسترفيله الذي سيغادر الساحة السياسية بأكملها وليس الحكومة فقط بعد فشل حزبه الليبرالي في الانتخابات الالمانية الأخيرة. وألقي شتاينماير في هذه المناسبة وامام عشرات الصحفيين كلمة اعرب فيها عن سعادته للعودة إلي نفس المنصب الذي كان يشغله في حكومة الأئتلاف الكبير بين الإشتراكيين والمسيحيين الديمقراطيين خلال الفترة من2005 وحتي2009, ايضا تحت قيادة المستشارة انجيلا ميركل. ومما جذب الانتباه في كلمة شتاينماير, اسلوبه الدبلوماسي المبطن في انتقاد بعض سياسات سلفه جيدو فيسترفيله خاصة فيما يتعلق بأسلوبه في التعامل مع دول التحولات العربية وفي مقدمتها مصر. ورغم الحذر الشديد الذي يتميز به شتاينماير إلا ان نقاط الإنتقاد كانت واضحة وابرزها استخدام فيسترفيله للغة بها الكثير من التهديد والصرامة في الكثير من الأحيان للتعبير عن عدم رضا الحكومة الألمانية عن التطورات في مصر في الفترة الماضية خاصة منذ الثورة الشعبية ضد الرئيس السابق محمد مرسي ثم عزله من قبل الجيش. كما انتقد شتاينماير نقص التحليل الوافي لخلفيات الصراعات والأزمات فيما اطلق عليها دول الربيع العربي قبل اتخاذ المواقف الرسمية. وانتقد ايضا سياسة سلفه والسياسة الأوروبية عموما في التخلي عن تقديم الدعم التنموي والاقتصادي أو تقليصه للدول التي تشهد هذه التحولات ومن بينها مصر. ومما قاله شتاينماير في كلمته: طريق مصر نحو الديمقراطية ودولة القانون سيكون اطول مما نتمني وتمني المصريون انفسهم ولهذا علينا ان ندعم سيرهم في هذا الطريق ولكن ليس فقط بالكلمات والنصائح الذكية..' وقال موجها حديثه لفيسترفيله, اعتقد انك توافقني الرأي في أن الديمقرطية لا يجب ان ترتبط في ذهن المواطن المصري البسيط بطعم الفوضي والجوع وإلا فقد الوعد الديمقراطي بريقه..اوروبا يجب ان تدعم عملية المصالحة المجتمعية الداخلية في مصر وان تحول دون تآكل النظام الاقتصادي.. وقال نحتاج لفهم افضل لما يحدث في العالم العربي مع تقديم دعم ملموس. وركز الوزير الألماني الجديد علي اهمية التحليل السليم للتطورات في هذه الدول وعدم دعم المعارضة فقط لكونها معارضة قبل التأكد من اهدافها فقال: اليوم نعلم ان التوصيف البسيط القائل بأن في الدول العربية نظم سلطوية تواجهها معارضة ديموقراطية لا ينطبق علي كل الأزمات..وانا لست ضد استخدام اللغة الصريحة المباشرة( في توجيه النقد والإدانة) لكن لابد ان تستند علي تحليل سليم, فيجب علينا ان نحلل اسباب الأزمات جيدا مع التفرقة جيدا بين المخطئ والمصيب..'. ويبدو من هذه الكلمات الأولي لوزير الخارجية الالماني الجديد القديم الذي ينتمي للحزب الإشتراكي الديمقراطي ان السياسة الالمانية تجاه مصر قد تشهد تغيرا ما ولو شكليا خلال المرحلة المقبلة يعيد من جديد النشاط التقليدي للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين والذي تراجع بشكل واضح منذ عزل الرئيس السابق وفي ظل تحفظ الحكومة الألمانية السابقة في التعامل مع حكومة مصرية غير منتخبة. وربما تكون هذه الإنفراجة متوقعة في إطار الإنفتاح التقليدي للحزب الإشتراكي علي الدول العربية وعلي العقلية العربية بشكل عام وموقفه الأكثر إعتدالا من القضايا العربية مقارنة بموقف حزب المستشارة انجيلا ميركل المحافظ والمغالي في إنحيازه لإسرائيل. ولكن ايضا تصريحات شتاينماير وقيادات حزبه الاشتراكي تشجع علي هذا الاعتقاد. ولمسنا هذا التغير في اللهجة في اول تصريحات رسمية للوزير الجديد تتعلق بمصر اتسمت بالتوازن والهدوء مع التمسك بالموقف الالماني, فأدان شتاينماير بشدة الهجوم الإرهابي الأخير علي مديرية امن الدقهلية وقال ان مصر تمر بأوقات صعبة ووصف الاعمال الإرهابية الأخيرة بانها دموية وبغيضة وان المانيا تدين هذه الاعمال الإرهابية بجميع اشكالها. في الوقت نفسه اضاف بحذر شديد انه يخشي فقط من أن يؤدي تصنيف جماعة الإخوان بأكملها كمنظمة إرهابية وتجريم جميع أعضائها إلي عدم إقتراب مصر من تحقيق السلام الداخلي المنشود وان الهدوء سيعود إلي مصر فقط إذا تمكنت من اتاحة المجال لكل الفئات الاجتماعية للمشاركة في عملية سياسية تؤدي إلي شرعية دستورية وديمقراطية جديدة. ورغم ان العديد من المحللين لا يتوقعون تغييرا ملموسا في مواقف الخارجية الألمانية في ظل بقاء المستشارة انجيلا ميركل علي راس الحكومة ورغم تسلم الإشتراكيين للوزارة في إطار تشكيل حكومة إئتلاف كبير بينهم وبين المسيحيين الديمقراطيين, ألا انه يمكن إستشراف السياسة الخارجية الالمانية تجاه مصر ودول الربيع العربي من خلال وثيقتين مهمتين. الأولي هي مشروع مارشال لدول الربيع العربي التي وضعها خبراء السياسة الخارجية في الحزب الاشتراكي الديموقراطي قبل عامين وفي مقدمتهم شتاينماير نفسه وكذلك رولف موتسينيش مسؤل الشئون الخارجية في كتلة الحزب البرلمانية. ومؤخرا اكد موتسينيش اهم اهداف هذه الخطة وضرورة السعي لتحقيقها بعد مشاركة الإشتراكيين في الحكومة, ومن بينها الاعتراف بمحدودية تأثير المانيا واوروبا علي التطورات في مصر وغيرها من دول التحولات العربية ما يستدعي سياسة تقوم علي فتح قنوات الحوار مع كل القوي السياسية واستخدام الدعم الاقتصادي والتنموي كحافز وليس كاداة للضغط من اجل الإلتزام بالأجندة الديمقراطية. وفقا لهذه الخطة علي المانيا ان تشجع اوروبا علي فتح اسواقها امام السلع والمنتجات الزراعية وقطاع الخدمات في هذه الدول مع وضع برامج لإستقدام الخبراء والمتخصصيين وتدريب العمالة الماهرة من هذه الدول في اوروبا, ودعم اقتصاديات هذه الدول لتحقيق تطور يلمسه المواطنون البسطاء مما يؤدي إلي استقرار الوضع السياسي. فضلا عن نقاط اخري مثل تطوير الدبلوماسية الشعبية والبرلمانية وتنشيط دور المجتمع المدني. اما الوثيقة الثانية فهي عقد الإئتلاف الحاكم نفسه والذي تم توقيعه في اواخر الشهر الماضي ويتضمن اهداف حكومة ميركل الإئتلافية خلال السنوات الأربع المقبلة. وبطبيعة الحال كان اول ما تضمنه الجزء الخاص بالشرق الأوسط والعالم العربي هو التأكيد علي إلتزام المانيا بمسؤليتها التاريخية تجاه أمن إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية وحقها الاصيل في الوجود. وفيما يتعلق بدول التحولات العربية تضع الحكومة الالمانية شروطا محددة لدعم هذه الدول هي ان تشهد تطورا ايجابيا نحو الديمقراطية والتعددية المجتمعية وان تضمن للمعارضة مشاركة سياسية وان تضمن الحقوق والحريات الاساسية للمواطنين بما في ذلك حق ممارسة العقيدة الدينية مع وجود إعلام وصحافة حرة. اما فيما يتعلق بمصر فيتضمن اتفاق الإئتلاف الحاكم في المانيا نقطتين محوريتين يبدو انهما يمثلان عقبة امام عودة العلاقات بين القاهرةوبرلين لطبيعتها: الأولي تتعلق بوضع المنظمات السياسية الألمانية ونشاطها في مصر حيث تنص الوثيقة الرسمية علي ان يصبح الحكم الصادر بالحبس ضد العاملين في مؤسسة كونراد اديناور في القاهرة وكأنه لم يكن وان يسمح للمنظمات الألمانية استئناف نشاطها في مصر بحرية. والثاني حماية الأقليات المسيحية( الأقباط) من العنف الممارس ضدهم ومنحهم كل الحقوق والحريات. كما تنص وثيقة الإئتلاف الحاكم في المانيا علي ان يظل الإعلان المصري الالماني الصادر في يناير2013 ساري المفعول. ومن بين ما ينص عليه هذا الإعلان الذي تم الإتفاق عليه خلال اجتماعات لجنة لتسيير المصرية الالمانية في نوفمبر2012, ان المانيا ملتزمة بدعم عملية التحول الديمقراطي في مصر وبتوطيد العلاقات الاقتصادية والعلمية والثقافية والتعاون بين البلدين في مجال الطاقة الجديدة وغيرها من المجالات فضلا عن تحويل ديون مصرية لألمانيا قيمتها240 مليون يورو لمشروعات وغيرها من الإتفاقات مقابل ألتزام مصر بحقوق الإنسان والحريات الأساسية وحقوق الأقليات وسيادة القانون مع وضع إطار قانوني لعمل المنظمات الألمانية يتيح لها استئناف نشاطها مع الشركاء المصريين في إطار القانون المصري.