تأسست نقابة الاطباء عام1949 وتقزمت امامها الجمعية الطبية المصرية, المنوط بها متابعة اداء المهنة وأخلاقيتها, لتصبح غرفة أو اثنتين داخل مقر النقابة( دار الحكمة). وتضخمت النقابة عبر ثلاثة عصور متتالية لتضم في عضويتها قرابة مائتي ألف طبيب, منهم صاحب المستشفي, الذي يعمل في نفس المستشفي مثل سائر النقابات المهنية, بما يعني أنها كيان يشمل في عضويته صاحب العمل, والمهني الذي يعمل لديه في تضارب للمصالح, لا يجعلنا ندرك عن آي مصالح تدافع النقابة. الواقع أن الهدف من انخراط الأطباء في هيئة طبية, هو تنظيم مزاولة المهنة والحفاظ علي هيبتها واخلاقيات ممارستها ومنح التراخيص وتجديدها من خلال إطار علمي مقنن لتنمية المهنة, والحفاظ عليها. وقد صدر قانون ينظم عمل النقابة( قانون45 لسنة1969) الذي ينص في مادته الثانية علي أهداف للنقابة تتجاوز خمسة عشر هدفا تكاد تجمع كل الأهداف المتخيلة لإدارة المنظومة الصحية, وربما تتجاوز اهداف انشاء وزاة الصحة ذاتها, ما يجعل هذه الاهداف مجرد بنود علي ورق, لا يعني شيئا واقعيا وحقيقيا في مجال ممارسة المهنة, كما اصدرت النقابة لائحة مختصرة عن آداب المهنة في عام1974( دورها الاساسي الذي لا تقوم به) تنص في مادتها الاولي علي أن مهنة الطب تميزت بين المهن_ منذ فجر التاريخ_ بتقاليد كريمة, وميثاق شرف, وقسم جري العرف علي ان يؤديه الطبيب الجديد قبل أن يبدأ مزاولة المهنة و استمرارا لهذه التقاليد فإنه يجب علي كل طبيب قبل مزاولة المهنة ان يؤدي القسم أمام نقيب الاطباء أو من ينوب عنه الخ.. تقول سيلفيا شيفولو في كتابها الرائع بناء الهوية المهنية والمشروع الطبي أن محمد علي وكلوت بك هما الاباء الشرعيون لمهنة الطب الحديث في مصر وعندما فارق محمد علي الحياة سنة1849, كانت بمصر مدرسة عليا للطب وكانت الإشكاليات والعثرات, وبالمجمل أزمة تشكيل الهوية المهنية التي واجهتها هذه المهنة, تعبر تعبيرا امينا عن أزمة التجربة التي انشأتها, وواجهت المهنة من جديد إشكاليات وعثرات اخري حينما دخلت في تجربة ثانية في ظل العصر الناصري وقد نلمح قاسما مشتركا أدي إلي إخفاق التجربتين والارتداد عن توجهاتهما بمجرد زوال بطليهما من علي مسرح الاحداث, وقد حاولت الدولة الناصرية اعادة تشكيل المجال الصحي, وأخذت الدولة علي عاتقها مهمة توفير رعاية صحية شاملة في متناول الجميع, إلا أن هذا التوجه صادف الكثير من العقبات, إذ سرعان ما تنافس مع مصالح المهنة التي تهتم بوضعها الاجتماعي وبالمميزات المادية المرتبطة بها والقائمة علي الحرفة الفردية, والعلاقات النفعية مع العملاء من المرضي, وسرعان ما اصطدمت المهنة الطبية مع التنظيم السياسي الشمولي الناصري. مع تزايد الضغط علي النقابة في الستينات من القرن العشرين, أصبحت النقابة ملعبا للصراع السياسي بين الدولة ومهنة الطب, انتهت بهيمنة الدولة الناصرية, وعندما دخلت المهنة منعطف تحول السبعينيات وتولي السادات الحكم تراجع المشروع العام برمته في جميع المجالات, وانطلقت سياسة الانفتاح الاقتصادي لتطال مهنة الطب وتطلق العنان للقطاع الخاص في المجال الصحي, ويواجه التأمين الصحي صعوبات حقيقية للوصول إلي الفئات الاكثر احتياجا. والملاحظ أن القاسم المشترك بين العصرين والتجربتين هو الاستبعاد الكامل للناس, المرضي والأطباء من المشاركة في ابداء الرأي أو صنع القرار الذي يخص صحتهم. وكان يعني في النتيجة النهائية استخدام النقابات في العمل والتوجه السياسي المباشر, ثم جاء الاخوان ليسيطروا علي النقابة في بداية الثمانينيات بإشارة خضراء من السادات, لكن بواجهة دينية ولحية! واستمروا في السياسات نفسها التي روج لها السادات, فتحولت النقابة الي غطاء سياسي لتنظيمهم غير الشرعي, وتحولت الي اداة لخدمات واستثمارات سكنية ومعارض مرابحة للسلع ورحلات ونظام علاجي بأجر وإغاثة دولية في توجهات لا تمثل الهدف من النقابة, ولكنها تدعم استثمارات رأسمالية تجارية في سوق الطب لكبار قادة الإخوان, والمتحالفين معهم اعتمادا علي قروض من مصارف اسلامية! وفي النهاية نجح هذا التيار الاسلامي السياسي في الانخراط في انشطة لا تمت بصلة للدور الحقيقي للعمل النقابي المهني. عندما ننظر الي ما حدث في انتخابات التجديد النصفي لنقابة الاطباء, التي انتهت فيها المواجهة الثانية بين ما يسمي بتيار الاستقلال, وما يسمي بتيار أطباء مصر, المنتمي الي جماعة الإخوان وحلفائها. وقد تفوقت قائمة تيار الاستقلال فيما يشبه الاكتساح,. وبذلك اصبح لهذا التيار الجديد الذي أعطته الفرصة ثورة25 يناير للنمو والحصول علي هذه الاغلبية للمرة الاولي, بما يعني حصوله علي منصب الامين العام للنقابة ووكيل وامين صندوق النقابة, ومقرري اللجان الفرعية بما فيها لجنة الاغاثة صاحبة التاريخ المريب! في معرض تفسير هذا النجاح ووضعه في سياقه الحقيقي تجب الاشارة الي طبيعة المرحلة, وحجم الاستقطاب السياسي في البلاد الذي كان له عامل مؤثر في الفوز! فالتصويت علي الارجح تم لأسباب سياسية من الجانبين ولا علاقة له بالأسباب المهنية الأجدي بالاتباع! ذلك ما يطرح علي الفائزين في تيار الاستقلال الآن تحديات ومهام جسيمة لإعاده النقابة الي دورها الاساسي, في بناء المهنة والحفاظ علي اخلاقياتها ومراقبة ممارستها( التي انهارت) وذلك عبر وضع أطر تشريعية جديدة لقانون جديد للنقابة, وقانون جديد لتطور المهنة وتنميتها, فهذه الأدوار الطبيعية لنقابة تضم في جنباتها آلاف الأطباء, مصالحهم متعارضة في كثير من الاحوال, علي أن تنشأ كيانات اخري مستقلة للدفاع عن مصالح الاطباء في مواجهة أصحاب العمل سواء في الحكومة أو القطاع الخاص. فالسوق الطبية تعاني انفلاتا واسعا, والمهنة تعاني فقدان احترامها وعدم الثقة فيها, وتحتاج الي إطار ومبادئ حاكمة لأخلاقيات ممارستها. فهل نحلم بعودة الدور الحقيقي بعد مرور ثلاثة عصور علي النقابة تزايدت فيها الأعداد وغابت فيها الأهداف؟ لمزيد من مقالات د. علاء غنام