إن المرء ليقف مشدوها أمام أحداث الزمان, فإنه رغم تباعد العهد بين خوارج الأمس وخوارج اليوم, يجد أن خوارج العصر يتبعون نهج سلفهم حذو القذة بالقذة, وكأنهم عاشوا جميعا في عصر واحد, ولم يفصل بين زمانهم وزمان أسلافهم هذا البعد السحيق في الزمن, فكأن خوارج زماننا يترسمون نهج أسلافهم, فلم يجاوزوا قيد أنملة منهم, والمستعرض لفكر سلف الخوارج, يجد أنهم كانوا يغالون في الدين ويبالغون في معتقدهم, قال عنهم رسول الله صلي الله عليه وسلم: يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم, فيقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم, يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية, كما ورد عنه أنه قال عنهم: سيخرج قوم في آخر الزمان, أحداث الأسنان, سفهاء الأحلام, يقولون من خير قول البرية, لا يجاوز إيمانهم حناجرهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة, وروي أنه صلي الله عليه وسلم قسم مالا بين أربعة رجال يتألفهم, فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتيء الجبين محلوق الرأس, فقال: اتق الله يا محمد, فقال: فمن يطع الله إن عصيته, أيأمنني علي أهل الأرض ولا تأمنوني, ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله, فقال صلي الله عليه وسلم: إن من ضئضيء هذا قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يقتلون أهل الإسلام, ويدعون أهل الأوثان, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية, لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد, وقد صدر هذا منه صلي الله عليه وسلم في معرض ذم هؤلاء, ومما لا شك فيه أن خوارج العصر أظهروا للناس من أنفسهم في أماكن تجمعهم أنهم ممن يعبدون الله علي حرف, وأن وقتهم حافل بالصلاة والذكر والقراءة, إلا أن ذلك كله لم يترك أثرا في نفوسهم, حتي إذا ما انصرفوا من هذه التظاهرة, أعملوا القتل والإحراق والإفساد في كل من وما وصلت إليه أيديهم, فضلا عن هذا فإنهم يوالون أهل الكفر, ولا يعادونهم, ويقتلون أهل الإسلام ويبغضونهم, فصدق عليهم ما صدق علي أسلافهم, أنهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم, وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, وقد كان من آفات فكر سلف الخوارج جهلهم بدين الله تعالي, وسوء فهمهم لنصوص الشرع, وقلة تدبرهم فيها, وعدم إنزال هذه النصوص منازلها الصحيحة, حتي إنهم في الآيات الواردة في حق الكفار, قاموا بإنزالها علي المسلمين, واعتبروا ما فيها واردا في حق المسلمين, سئل ابن عمر عنهم, فقال: يكفرون المسلمين, ويستحلون دماءهم وأموالهم, وينكحون النساء في عددهن, وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج, وقال: لا أعلم أحد أحق بالقتال منهم, وقد قتلوا خباب بن الأرت وبقروا بطن أم ولده, لمجرد أنه أثني علي عثمان وعلي رضي الله عنهما خيرا, في الوقت الذي استرضوا فيه ذميا علي قتل أحدهم خنزيره, فعوضوه عن قتله له, فإذا ما نظرنا إلي سلوك خلفهم المعاصرين, وجدناه مطابقا لسلوك سلفهم, فقد ذكرت لأحد علمائهم أن ما يفعلونه لا يرضي الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم, فقال: إن ما يفعل من الجهاد في سبيل الله, وبعد محاورة طويلة معه, قلت: وما حجتك في أنه جهاد, فذكر قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر, واعتبر أن سفك دماء الأبرياء, وانتهاك الحرمات, وإتلاف الأموال والممتلكات, وقطع الطريق, وإرعاب الآمنين وإرهابهم, وتهديد أمنهم, من قبيل كلمة الحق, وأنه من أفضل الجهاد, ولما كان ذلك مما لا يختلف أحد ولو كان مثقفا ثقافة غير متخصصة في الشريعة- في أنه عين الباطل, فلا يتصور أن يكون كلمة, فضلا عن أن يكون عن سلطان أو حتي قاطع طريق, وإنه لمما يعجب له أن يصدع بنفس الحجة أحد المحسوبين عليهم, مبررا قطعهم الطريق في أماكن تجمعهم, وإرعابهم الناس, واعتداءهم عليهم, بأنهم في رباط, هذا الفهم الخاطئ لنصوص الشرع, وإنزاله في غير موضعه, إنما يرد حلقة في سلسلة اتباع سلفهم من الخوارج, الذين استحلوا دم خباب وأم ولده, وغيرهما من المسلمين, وتحرجوا من قتل أحدهم لخنزير ذمي, إن هذا المجتمع يواجه خروجا آخر, بنحو الذي أعد له علي رضي الله عنه عدته لمواجهته, فهل أعد له رعاة هذا الوطن العدة لمواجهته ؟.