لا ننكر على شبابنا المتدين غيرته ولا إخلاصه ونواياه فهذه من الأمور التى نكل الفصل فيها لرب الناس فى المشهد العظيم، لكن الظاهر توفر الإخلاص والهمة ومحاولة أخذ الدين بقوة. غير أن الإمام المبتلى أحمد بن تيمية كان قد علمنا أن التصرف الرشيد لابد أن يقوم على أمرين «خالصا، صواباً». الإخلاص أن يستهدف صاحب العمل رضا الله سبحانه، خالصاً لله رب العالمين، صواباً على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فقد العمل أحد هذين الركنين فقد القدرة على نيل الرضا الإلهى فالإخلاص وحده ليس كافياً فلابد أن ينهج العبد نهج النبى المعصوم فى سيرته وسنته. والأوصاف التى حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم للخوارج تدفع إلى الفزع والخوف والوجل خشية الوقوع فى براثن تلك الفرقة التى حرفت عن النهج المستقيم، فهم «حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام» وهم أيضاً «يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم» وهم «يقولون من خير قول البرية»، وغير هذه الصفات التى تؤكد تدين أتباع تلك الطائفة، بل غلوهم فى التدين وهنا مكمن الحذر ويؤتى الغر من مكمنه. وميزة الإسلام أنه شريعة وسطية لا إفراط فيها ولا تفريط، فكما يزيغ عن الطريق القويم المبتذلون المفرطون فى دينهم التابعو كل ناعق من شرق وغرب، الذين لا يعرفون سبب الخليقة ولا شروطها، ولا يقدرون أن الطريق موحشة والدروب صعبة ومهلكة، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة، وأنه من خاف أمن ونجا، الذين يعيشون حياتهم كما تعيش الأنعام (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) لا يؤدون صلاة ولا صياماً، ولا يحرصون على إخراج الزكاة أو القيام بفريضة الحج، لا يؤرق مضاجعهم تراجع المسلمين عن القوى العظمى التى تقود البشرية فى العقود المتأخرة، ولا كيفية إحياء المشروع الإسلامى، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، بل يتبعون حذو أعداء الإسلام حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب دخلوه، كما قال المصطفى، هؤلاء وأولئك سواء بسواء الإفراط والتفريط، وعلى هذا أردنا أن ننبه إلى مخاطر الغلو فى فريق المتدينين فالغلو فى اللغة هو: مجاوزة الحد وفى الشرع هو التشدد والخروج عن حد الاعتدال فى الدين اعتقاداً أو عملاً وقد خط النبى صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً على الأرض وخط خطوطاً أخرى متعرجة وغير مستقيمة، وتلا قول الله سبحانه (وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، والذى شيب نبينا الكريم كما قال المفسرون فى سورة هود أن بها آية الاستقامة (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنى بما تعملون عليم)، فالاستقامة وما تفرضه من رغبة فى التدين والرغبة فى دخول الجنة قد تدفع صاحبها إلى الغلو والإفراط، لذلك تبقى أسباب الغلو والتكفير قابلة للتكرار فى كل عصر ومصر وزمان ومكان طالما تكررت أسبابها، وتوفر مناخها، فقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بأنه: (يأتى فى آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البريّة، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم..) وقد خرجوا فى زمن على بن أبى طالب رضى الله عنه وأنكروا عليه أشياء فدعاهم إلى الحق وناظرهم فى ذلك فرجع كثير منهم إلى الصواب، وبقى آخرون فلما تعدوا على المسلمين قاتلهم على رضى الله عنه وهو ما نريد للعلماء اليوم اتباعه لا أن يتوجهوا بالنقد والتسفيه للشباب المتدين المتشدد وإنما يلزم الحوار معهم واتباع الحجج وإقناعهم بها، فليس كل متدين «خوارجى تكفيرى» كما يحرص بعض المنفلتين على تصوير شبابنا المتدين دائما فى هذه الصورة أو ذلك المربع، وهنا وجبت التفرقة بين الذين يقعون فى المحرمات ويهدرون الدماء ويستحلونها ويستحلون الأموال وبين من يوظفون الأصول توظيفاً خاطئاً، ويستخرجون الأحكام الشرعية من النصوص، دون أن يكونوا مؤهلين لذلك تأهيلاً علمياً مناسباً. إننا نريد لشبابنا أن ينشغل بإعادة الناس إلى دينهم الحق بِراً وحُباً ووِداً وكَرامة، فالرائد لا يكذب أهله، والناصح لا يغش قومه، أن تمارس الدعوة وفى نفسك أيضاً، أن ترّغب أهلك ومن حولك ونفسك أيضاً، أكثر من شغل نفسه بإصدار صكوك التكفير، طبعاً لسنا مع عقيدة الإرجاء كما أننا لسنا مع عقيدة التكفيريين، الوسطية فى منهج وعقيدة أهل السنة والجماعة. النعى على اتباع عقيدة الخوارج والتكفيريين لا يعنى أبداً نفى وقوع أحد فى كبيرة الكفر، ولكن كما أسلفنا ينبغى مراعاة أحكام القوة والاستضعاف ووجود حاكم مسلم ممكن من عدمه وأمور أخرى كثيرة، والعلم بالشىء يختلف تماماً عن العمل به. والكفر كفران أحدهم مخرج من الملة يرتب لصاحبه الخلود فى النار والآخر غير مخرج من ملة الإسلام وينقص الإيمان وللحديث بقية.