ربما جسد مذهب( اللذة) موقفا أخلاقيا متهافتا منذ نشأته; عكس حالة من التدهور العام والتراجع في النظريات الأخلاقية اليونانية بعد سقراط وأفلاطون وأرسطو, نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية المضطربة في العصر الهيلينستي. فقد كان من آثار النزعة السياسية والاقتصادية الاستعمارية الدولية الجديدة تغيير البني التقليدية للمجتمع, وحدث استبعاد للناس العاديين من المشاركة في تقرير قضايا حياتهم اليومية الكبري, ونشأت البيروقراطية نتيجة السلطة الاستعمارية, التي كانت تدير كل الشؤون ومن ضمنها الشؤون العقلية أيضا, وبحث غير المثقفين عن العزاء في المعتقدات الخرافية والعبادات السرية! وقد تأثر مذهب اللذة بالظروف التاريخية التي نشأ فيها; ففلسفات الأخلاق اليونانية بعامة هي نتاج مجتمع عبودي قائم علي التمييز بين الطبقات, واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان, فضلا عن كونه مجتمعا عنصريا, ينظر باحتقار إلي الشعوب غير اليونانية باعتبارها شعوبا بربرية. ففي هذه الظروف ظهر تيار في فلسفة الأخلاق يري أن الخير هو اللذة أو الفعل الذي يؤدي إلي اللذة, والشر هو الألم أو ما يؤدي إلي الألم; لأن كل إنسان بفطرته- في تصور هذا المذهب- ينزع نحو تحقيق اللذة, ويجتهد لتجنب كل ألم. وقد اختلف أنصار مذهب اللذة في طبيعة اللذة: هل هي حسية, أم عقلية, أم حسية وعقلية معا؟ وهل اللذة سيكولوجية أم أخلاقية؟ وهل الخير يكمن في اللذة الفردية التي يحكمها مبدأ الأنانية أم اللذة الجماعية التي تقوم علي الإيثار وتحقيق اللذة للجميع؟ والنظريات الفلسفية الأخلاقية التي تعد مثالا نموذجيا علي هذا المذهب: نظرية الأخلاق عند المدرسة القورينائية والمدرسة الأبيقورية. كما أن مفهوم اللذة تجلي في مذهب المنفعة العامة عند بنثام وميل. لكن توجد فروق أساسية فاللذة عندهما اتخذت مجالا أوسع من اللذة الفردية إلي اللذة التي ينالها أكبر عدد من الناس, والعقل يتدخل في اللذة عن طريق حساب متوازن للنتائج وفق سبعة معايير. ويمكن بيان تهافت حججهم بكل سهولة; فلا يصلح مذهب اللذة كأساس نظري لأية أخلاقيات تقوم علي المشاركة والتعاون وانسجام خير الفرد مع خير المجتمع. ولم يوضح الشروط القبلية للأخلاق, أي الشروط التي لابد من توافرها والتي بدونها لا يمكن ممارسة الأخلاقيات, فمثلما لا يمكن الزراعة الجيدة بدون مناخ ملائم وأرض خصبة, فكذلك لا يمكن ممارسة الأخلاقيات إذا لم توجد شروط قبلية ضامنة, مثل: وجود إله عادل خير يجازي الناس علي أفعالهم في الدنيا أو الآخرة; فبدون هذه الشروط لا يمكن أن تكون هناك إمكانية لأن تكون فاضلا( إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح), وبدون هذه الشروط لن تكون هناك إمكانية لممارسة أخلاق التقدم أو لتنفيذ مدونة السلوك الشخصي الدافع إلي ممارسة فعل التقدم; لاسيما وأن مذهب اللذة لم يقدم الضمانات الدنيوية التي تكفل تطابق الفضيلة والسعادة, أي أن يكون الفضلاء سعداء, والأشرار تعساء, في هذه الحياة الدنيا. وأخلاق اللذة عند بعض التيارات اليونانية مثل القورينائية هي أخلاق أنانية وحسية, تجعل الإنسان مجرد كائن جسدي, وتهمل الروح والعقل; ولا تنظر إلا إلي اللذات الحسية; ومن ثم لا يكون هناك فرق بين الإنسان والحيوان. ولذا لا تصلح لقيام الأخلاق كعلم إنساني وقد خالفت القورينائية الصواب; لأنها أهملت الماضي والمستقبل في حياة الإنسان, ووقفت بالإنسان عند حدود اللحظة المؤقتة الحاضرة. وهذه نظرة أثبتت التجارب خطأها; لأن التركيز علي المتع المؤقتة يدخل الإنسان في سلسلة من الخسائر, ولا أدل علي ذلك من النظر في حياة أولئك الذين يعتنقون هذه الفلسفة من حولنا من المدمنين أو شاربي الخمور أو الذين يقيمون علاقات جنسية مؤقتة, دون التفكير في العواقب. وكان القورينائيون سفسطائي النزعة, وغاب عنهم الوعي بأهمية العلوم الرياضية, ونظرتهم إلي الحياة قاصرة; إذ سيطر عليهم السعي الحيواني إلي اللذة الحاضرة دون تفكير في عواقبها أو وسائلها من الناحية الأخلاقية. فضلا عن تشجيع بعض أنصارها للانتحار. وهذا ما يرفضه العقل باعتبار الحياة قيمة كبري وعطاء إلهي لا ينبغي الاستهانة به. والمصاعب في التصور العقلاني ينبغي أن تواجه بالتحدي والإصرار, وليس بالانسحاب أو الانتحار. وتقدم' المدرسة الابيقورية' مفهوما للحياة بعيدا تماما عن الشعور بالمسئولية والمشاركة; إذ كان هدفها الجوهري هو الوصول إلي الشعور بالطمأنينة الفردية, واللذة هي الخير الأقصي عندها. والشجاعة التي كانت تظهرها في بعض الأحيان, هي شجاعة الاستسلام واللامبالاة وقبول الأمر الواقع! وقد جعلت الأبيقورية تصورها للحياة السعيدة منسحبا علي الألوهية! وهو نوع من التشبيه والتجسيم للألوهية ينأي عنه العقل السليم وتأباه العقيدة القويمة التي تنزه الألوهية عن كل ما فيه تشبيه أو تجسيم..( سبحان الله عما يصفون)(المؤمنون: من الآية91)..( ليس كمثله شيء)( الشوري: من الآية11). وإذا تركنا القورينائية والأبيقورية إلي مذهب المنفعة العامة, نجد أن بنتام سعي إلي التغلب علي الأنانية المترتبة علي المنفعة, فقال بالمنفعة العامة; لكنه عاد فرفض الإيثار وتضحية الفرد من أجل الآخرين. ولا تصلح المنفعة لقيام الأخلاق( ولهذا حديث آخر منفصل). ومن ثم عجزت فلسفات اللذة عن تقديم أساس نظري لأخلاقيات الأمانة, وبذل الجهد, والإتقان, والشعور بالواجب, وبذل الذات, والشرف, والالتزام, واحترام الآخرين وتقدير أعمالهم. ولم تقدم توضيحا للوسائل والآليات العملية التي يمكن أن توصل لتحقيق الخير والتقدم, والتي تساعد الإنسان علي أن يصير أخلاقيا. لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت