يتطلب الحرص علي نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة في مصر حظر قيام أحزاب في مصر علي أساس ديني. وللتأكيد, أقصد أحزابا تهدف إلي إقامة دولة يغلب عليها طابع السلطة الدينية, وحكم المجتمع بنسخة من الشريعة الإسلامية المتشددة والمعسرة علي الخلق في معصية صريحة للخالق عز وجل الذي يحب أن تؤتي رخصه, كما يكره أن تؤتي معصيته وفق الحديث النبوي الشريف. ويتعين أن يشتمل حظر قيام الأحزاب علي اساس ديني, في الدستور والقانون, علي ضمانات لعدم الالتفاف علي هذا المسعي بادعاء المرجعية الإسلامية كستار دخان يعمي عن الغرض الأساس. فلقد عانينا من مثل هذه التشكيلات الحزبية التي قامت بالمخالفة لصحيح القانون في الحقبة السابقة من خلال التخفي وراء ستار أسموه مرجعية إسلامية خداعا ومرواغة. ولدي سببان رئيسيان لرفض هذه التشكيلات الحزبية. الأول مبدئي, فمثل هذه الأحزاب تناقض غايات الثورة الشعبية العظيمة في إقامة دولة عصرية ومدنية حديثة تساوي بين مواطنيها وتضمن الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع علي أرض مصر. والسبب الثاني عملي, فخبرتنا مع سلطة اليمين المتأسلم أظهرت بما لا يقبل الشك أن مثل هذه الأحزاب اتحدت علي هدف إجهاض الموجة الأولي من الثورة الشعبية, يناير2011, لأغراض لا تمت للثورة أو الوطنية بصلة. ولولا اليقظة الثورية لشعب مصر العظيم التي تجلت في الموجة الثانية الكبيرة من الثورة, يونية/ يولية2013, بحراسة ومدد قواته المسلحة الباسلة, لكنا خسرنا الثورة والوطن والإسلام جميعا خدمة لأغراض مخططات دولية لاتمت للثورة أو الوطنية المصرية بأي صلة. لقد أظهرت هذه الأحزاب متحالفة أنها ليست إلا تيارا سياسيا يمينيا يلتحف زورا بالإسلام, وكشف عندما قفز علي السلطة عن وجه فاشي مقيت. وبالنسبة للإسلام فقد كشرت هذه الكيانات الحزبية انيابها الفقهية الشرسة عن نسخة متخلفة من الإسلام تزيد جهالة وتشددا علي تشدد محمد بن الوهاب مؤسس الحركة الوهابية منذ قرنين في قفار نجد الجرداء, وهو كان أعتي تشددا من شيخه ابن تيمية( القرن السابع الهجري) الذي فاق إمامه ابن حنبل( نهايات القرن الأول للهجرة- بدايات القرن الثاني) في التشدد. هم أرادوا إذن حكم مصر دولة ومجتمعا في بدايات القرن الحادي والعشرين بفقه من الدرجة الرابعة في التشدد المغلف بجهالة وفظاظة من يعيشون في هذا العصر بينما هم ينتمون, فكرا وهيئة, إلي كهوف وجحور في الزمن والمعرفة. والأدهي أن ردوا علي حق الشعب في إسقاط حكمهم الإقصائي المستبد والخائن للثورة, بترويع الأبرياء وبالإرهاب المسلح الخسيسس. وفي صحيح البخاري قول الرسول الكريم من حمل علينا السلاح فليس منا. هذه الخبرة الأليمة تعني قطعا استبعاد من حمل السلاح علي الشعب من الحياة السياسية والعامة في مصر, بعد محاسبتهم بعدل ونزاهة يضمنان حقوقهم الإنسانية التي حرموها علي أشقائهم في الوطن. لكن هذا الموقف لا يعني أن تغيب المرجعية الإسلامية عن مستقبل السياسة وحركة المجتمع في مصر إن بقي بين أبناء مصر الأطهار من لم يتلوث بهذا الفهم الرجعي المتشدد والمعسر للإسلام ولم يمارس العنف أويرفع السلاح علي بني وطنه. فيقيني أن سيبقي الإسلام مكونا أصيلا للنسيج الوجداني والروحي لشعب مصر, ويتعين أن يكون لمن يعتنقونه, بفهم صحيح يرعي مقاصد الخالق عز وجل, مكان في المجتمع والسياسة في مصر. وإن كان لهم في رسول الله وصحبه قدوة حسنة كما يدعون, فلينصرفوا إلي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة, وليفهموا أن ليس عليهم إلا البلاغ, وليس لهم ان يسعوا للسيطرة علي الناس. غير أن هناك, بسبب انتشار أفكار اليمين المتأسلم وممارساته المتخلفة بين فصيل من الشعب, تحديا فكريا يكمن في التوصل لفهم للإسلام يتسق مع منطق العصر الذي نعيش ويناصر غايات الثورة الشعبية العظيمة كمرجعية لمثل هذه النشاطات. وليس الأمر مستحيلا, فالإسلام نشأ ثوريا وتحرريا في المقام الأول. والغرض من هذا المقال تلمس بدايات للفهم الثوري التحرري للإسلام, الذي اعتبره روح الإسلام الحق, بما يؤسس لمرجعية إسلامية تحتضن غايات الثورة الشعبية العظيمة وتعمل من أجل نيلها. ومن قبيل إرجاع الفضل لأهله, فقد اهتديت في كتابة هذا المقال بكتابات للمفكر الشيعي المستنير, والمناضل الثوري الإيراني علي شريعتي(1933-1977). ومن يتمعن في الأفكار الواردة فيما يلي فسيجد مقومات متينة للتقارب بين الفكر السني والشيعي في الإسلام حول فهم ثوري للإسلام يضع الشعب في موقع الصدارة من التغيير والنهضة في المجتمع, وهو أمر يسير متي التزم المفكر بروح قويم الإسلام. ويقصد بالحرية قدرة الإنسان علي فعل شيء أو تركه بإرادته الذاتية, بعيدا عن أي قهر أو إجبار من آخرين, بل يأتي الأمر راضيا غير مجبر, مختارا غير مكره. وقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن الحرية أن جعل السبيل إلي إدراك وجود الله تعالي والإسلام له هو العقل الحر, غير المتأثر بقوي خارجية قاهرة, كالخوارق والمعجزات. قال تعالي:لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي لا انفصام لها والله سميع عليم( البقرة256). إن نفي الإكراه في الدين, هو أعلي درجات حرية الإنسان في الإسلام. كذلك يظهر إعلاء مفاهيم الحرية في الإسلام في توحيد الله عز وجل, حيث تتحرر النفس البشرية والعقل الإنساني من القيود الوثنية وعبادة الفرد لغير الله. فالحرية في الإسلام نقيض العبودية, وضد الرق والوثنية والظلم. ولذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص رضي الله عنه: متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا. هكذا بدأ الإسلام بتحرير الإنسان من داخله, فحرره من العبودية لغير الله, وجعل العبودية لله وحده, ووفق ذلك لا يهون الإنسان ولا يذل ما دامت عزته بالله. فالحرية هي أساس عزة المؤمنين المستمدة من عزة الله سبحانه وتعالي, وفي ذلك يقول الله عز وجل: ولله العزة ولرسوله و للمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون( المنافقون,8). نستكمل الأسبوع المقبل.. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى