يفتش دائما عن حلمه في البعيد.. حر كالريح.. جرفه نهر الزمن بين محطات عديدة كانت له فيها أجمل الذكريات.. من تلا إلي باريس.. لا الرحلة ابتدأت, ولا الدرب انتهي. الفصل الأجمل من حكايته تقرأه في مرثية العمر الجميل أو دار العودة.. و ربما نقشه بحجاره علي أشجار الأسمنت. كنت علي موعد مع الشاعر والناقد الكبير أحمد عبد المعطي حجازي في مجلة إبداع الثقافية التي يرأس تحريرها حاليا. هناك التقيت بفارس يطمح إلي مدينة أقل شراسة وقسوة.. يطمح إلي وطن يمارس حريته كاملة دون قيد. شاعر يبكي بصمت لإهمال الكلمة وضياع اللغة العربية في آخر الزمان. فبالرغم من عشقه لأشعار إليوت وبودلير ورامبو, إلا أنه قضي عمره مسافرا بين الكلمات بلسان عربي رصين, حتي صار واحدا من حراس لغة الضاد. يرسم بالكلمات ملامح وجه وطن.. بات- علي السواء- قيده وحريته.. متي تتحول المنافي الاختيارية إلي أوطان؟؟ طالما أن المنفي مختار فهو مرشح أن يكون وطن. ويصبح وطنا بالفعل, عندما يجد الشخص المنفي نفسه فيه ويجد له مكانا في ثقافة المنفي.. أي أنه بقدر ما يكون الحوار متناغما بين المنفي( المكان) والمنفي( الإنسان), تخلق الأوطان. هذه التجربة عشتها في باريس حيث أنفقت من عمري17 سنة من الإقامة علي أرضها دون أن أشعر بالغربة مطلقا. في البداية, قررت السفر إليها لمدة ستة شهور فقط حتي أستكمل دراستي وأتعرف علي أهم معالمها السياحية.. لم يخطر ببالي أن الإقامة سوف تطول!.. وقتها, أضطررت للكتابة في بعض الصحف العربية كي أعيش حياة كريمة. وإذا بكاتب مغربي هو الطاهر بن جلون يكتب عني مقالا في جريدة لو موند الشهيرة, فيقلب حياتي كلها ويكون سببا في لفت الانتباه لي.. بعدها مباشرة طلبت للعمل في التدريس بجامعة باريس8( فانسان) ثم جامعة باريس3( سوربون نوفال). منذ ذلك الحين امتدت إقامتي في العاصمة الفرنسية لسنوات(1974 - 1990). لم أجد في العالم كله مدينة تنافسها في الثقافة. ربما لأنها تقدم نفسها باعتبارها مدينة البشر وليس الفرنسيين فقط. الجنسيات المختلفة علي أرضها ليسوا مجرد زوار, ولكن مقيمين مبدعين ومشاركين في الحياة الثقافية. وكما هو معروف, هناك العديد من المصريين الذين كتبوا فيها بالفرنسية مثل: روبير سوليه, ألبير قصيري, جورج حنين, الشاعر أحمد راسم, أندريه شديد, وغيرهم.. يمكننا القول بأن العالم كله شارك في إنتاج الثقافة الفرنسية من مسرح, وسينما, وفنون تشكيلية, وأدب وشعر... منذ نصف قرن كتبت في القاهرة ديوان مدينة بلا قلب... لو كررت التجربة مرة ثانية في ظل المشهد العبثي الذي تعيشه المدينة اليوم من فوضي وعشوائية, كيف ستصفها؟؟ - مع الأسف, قاهرة اليوم هي مدينة بلا جسد, بلا عقل.. مدينة مسكينة حقا. بينما قاهرة الأمس التي طرقتها عام1955 لأستقر بها, كانت مدينة جميلة نظيفة, تغسل شوارعها كل يوم.. حافلة بالنساء الجميلات.. زاخرة بالثقافة, فهي مدينة طه حسين, وعباس العقاد, وأم كلثوم, والقصبجي, وعبد الوهاب. لقد جئت إليها وأنا ضعيف لا حول لي.. لا أملك غير الشعر.. أبحث عن تحقيق ذاتي.. لكنها كانت جميلة وقاسية, مغلقة علي نفسها.. لم تصبح وطنا لي إلا بعد فترة كبيرة. تتغير الأماكن ويتبدل البشر علي مر العصور.. فكيف تري التغيرات التي طرأت علي الشخصية المصرية؟ وهل نحن فقدنا الهوية وانقسمنا إلي شعبين؟؟ - الشخصية المصرية عاشت لفترات طويلة مستقرة, لكنها تعرضت للتغيير مؤخرا. ما بين القرن15 و18, نجد أن المصري ظل مستقرا سواء في الريف أو المدينة. وبقيت القاهرة هي ذاتها, بعمارتها وسكانها من المماليك والحرفيين وبعض علماء الأزهر. وفي القرن19, رغم قدوم الأجانب للإقامة في مصر, ظلت الإقامة في القاهرة مكلفة لقطاع كبير من المصريين.. وبات الفلاح علي قناعته بأن حياته مرتبطة بالأرض ولم يفكر قط في مغادرتها. غير أن المشهد تبدل تماما في القرن العشرين عقب الثورة الصناعية التي دفعت كثيرا من العمال لمغادرة المحافظات والأرياف, والقدوم إلي القاهرة حيث المصانع والشركات, ثم توالت التطورات الإجتماعية. فيما يخص الهوية, لا أوافق علي فكرة أننا شعبان, وإنما نحن ثقافتان.. ما حدث أن ثقافة الإخوان هي التي إحتلت مصر في العقود الأخيرة.. تحديدا بعد أن غادر الأجانب مصر عقب ثورة يوليو1952, و زج باليساريين في السجون, فكانت المساجد ملاذا ومنابر للإخوان حتي وقت قريب. طوال هذه الفترة كانوا يرسخون في الشعب فكرة انتمائه إلي الهوية الشرقية. وهو أمر يتناقض مع طرح طه حسين- وأنا من أنصاره- والذي مفاده أن أوروبا أو حضارتها تعد عنصرا من عناصر الشخصية المصرية, ويعتبر العقل المصري عقلا غربيا.. فنحن- تاريخيا- إرتبطنا باليونانيين والرومان, وحديثا ارتبطنا بالفرنسيين والإنجليز.. ولم يكن يجمعنا بدول الشرق مثل الصين والهند علاقات تصبغنا بالهوية الشرقية! اليونسكو اعتمدت18 ديسمبريوما عالميا للغة العربية.. باعتبارك من حراسها, كيف تقيم هذه الخطوة؟ وهل تري أننا كنا أمناء علي هذه اللغة؟ العربية هي لغة أمة عريضة( بالمعني الثقافي), يتحدثها الملايين من البشر.. وهي لغة أديب نوبل نجيب محفوظ.. لذا, فإنه أمر جيد أن تحتفي اليونسكو بها, كما ينبغي أن تحتفي بكل لغات الأرض. غير أن العربية تختلف عن باقي لغات العالم حيث تنقسم إلي لغة دارجة نتحدثها في الشارع, وأخري فصحي نتعلمها في المدارس. لذلك, فإنها تتطلب جهدا أكبر لدراستها. بالطبع تعرضت اللغة العربية للإهانة في بلادنا, ويمكن أن يستدل علي الوضع السييء الذي آلت إليه عندما تستمعين إلي مقدمي البرامج في الإذاعة أو التليفزيون, فتدركي أن اللغة التي كان يتحدثها طه حسين أو فاروق شوشة لم يعد لها وجود بيننا الآن. كذلك في الصحف والمجلات.. وفي المدارس والجامعات, بما فيها جامعة الأزهر التي يتضح من مستوي الخطب في مساجدنا حاليا مدي تردي إجادة العربية وتدنيها!.. مع الأسف, لقد اقتصرت سياسة التعليم علي فصول مكتظة, ومناهج عقيمة, ومبان متهالكة, ومعلمين غير مؤهلين... وبالتالي, أصبح وضع العربية كارثيا, حتي العامية التي كان يتحدثها بيرم التونسي وصلاح جاهين, لم يعد لها آثر.. صارت عامية اليوم أكثر انحطاطا. لا حياة لأمة فقدت لغتها!.. نحن بحاجة إلي خطة ثقافية لإنقاذ العربية مثلما نبحث عن سبل إنقاذ الديمقراطية, وتحسين الاقتصاد. ثمة رأي يقول إن المشهد الشعري العربي اليوم أصبح يعاني كثرة الشعراء و قلة الشعر؟! يمكن وصف الوضع العام بالركود.. وربما نلمس انعدام الشعور بالحاجة إلي الشعر!.. فقد تعددت في هذا الزمان وسائل التعبير المنافسة, شأن الانترنت والفضائيات. في المقابل, تراجعت المواهب القادرة علي خلق لغة خاصة بها وصياغتها بحيث تصير متمكنة من ملكة الشعر.. بل إنها تكاد تكون نادرة للغاية!! لا شك أن الحياة قادرة- بكل صورها وظروفها- أن تلهم الإنسان, ما يتبقي فقط هو القدرة علي التعبير. لكنني أري أن وضع اللغة العربية لمن يستخدمها اليوم في الإبداع والتعبير, ليس كما نحب. أنا متفائل ببعض الأسماء الجديدة مثل شيماء بكر, ومحمد منصور, ومحمد سالم عبادة.. وعلي ثقة بأن هناك أسماء واعدة أخري سوف يبزغ نجمها في عالم الشعر إذا إلتزمت بالعمل الدءوب وتلقي العلم والاستماع لخبرة السابقين. شرط أن يتوفر لهم منابر لنشر أعمالهم, وتحظي كتاباتهم بالنقد كي يتعرفوا علي مواطن القوة والضعف في الأسلوب, وأن تتوفر لهم الفرصة في التواصل مع الجمهور.. وهنا يأتي دور الدولة. رحل منذ أيام عن عالمنا شاعر المهمشين أحمد فؤاد نجم.. إذا أردت أن تكتب له رسالة وداع, فماذا تقول فيها؟ أولا, دعيني أشير هنا إلي أن احتفاء المصريين وتقديرهم للشاعر أحمد فؤاد نجم يجعلني متفائلا جدا بمكانة الشعر والشعراء في المجتمع المصري.. خاصة إذا نجح الشاعر في أن يحقق قاعدة جماهيرية عريضة له كما فعل الفاجومي. أكتب إلي فؤاد نجم بعد رحيله, قائلا: أعطيتنا الكثير, ولم تغادرنا إلا بشبحك فقط.. أما روحك, فهي معنا.. وجدناها حاضرة الآن أكثر من جسدك. فقد كنا مطمائنين سابقا لوجودك بيننا.. لكن غيابك واحتياجنا لك, يجعل حضورك بيننا أقوي وأعظم. ما هي مشروعاتك القادمة.. وهل صحيح أنك بصدد كتابة مذكراتك؟ لقد كبرت في العمر, والوقت أصبح محدودا بالنسبة لي. كانت الفكرة تراودني منذ عشر سنوات, وأعتقد حان الوقت لكي أبدأ في تنفيذها. مذكراتي سوف تتضمن تجاربي كمثقف ومواطن- وسوف أطرح فيها الدروس التي استخلصتها من الحياة, وخبرتي لأعوام في حقل الشعر والسياسة. أخيرا, هل لي أن أعرف رأيك في الدستور الذي تحدد إجراء الاستفتاء عليه في يومي14 و15 يناير2014 ؟ بالتأكيد سوف أصوت ب نعم.. لأنه يضم في باب الحريات والحقوق ما نعتبره إنجازا عظيما يوفر لنا الحق في نشاط إجتماعي وسياسي وفكري حر. هذا الدستور يعترف بحقوق للمرأة والمسيحيين لم تكن موجودة من قبل. كذلك, فإنه يوازن بين سلطات رئيس الدولة والبرلمان. يبقي لدي تحفظات علي بعض المواد المتعلقة بالهوية, مثل: غياب عبارة الدولة المدنية, فقد كنا بحاجة إليها, لإثبات أن الدولة المصرية لن تكون عسكرية أو دينية مستقبلا. أيضا, موضوع جواز تقديم المدنيين إلي محاكمات عسكرية هي مسألة تحتاج إلي إعادة الصياغة, حتي لا يختلط الأمر علينا. الديباجة بشكل عام جيدة, لكنها تفتقر إلي بعض التفصيلات الخاصة بالأقليات الدينية والعرقية.