إذا اتفقت معي علي أن كروان اللغة العربية الفصحي بات مهيض الجناح منذ عقود، بعد أن تم أسره في قفص الابتذال الرخيص وسجن اللهجات السوقية. وإذا أيقنت أن هذا الكروان قد أصبح بحاجة ماسة إلي التحرر والتغريد في فضاء حياتنا الثقافية مرة أخري، أقول إذا اتفقت وإذا أيقنت، فأكمل قراءة هذا المقال. أما إذا كنت من الذين يخاصمون اللغة الفصحي ويتعاملون معها بضجر، فلا داع لأن تجهد نفسك بمطالعة مقال يحاول أن يعيد الكرامة المستباحة للغة العربية بعد سنوات طويلة من التعرض للإهانة المنظمة والتسفيه الدائم! البداية المُرّة لا أظن أن هناك من يستطيع تحديد النقطة التي شهدت بداية سقوط اللغة العربية الفصحي، ولكن يمكن الاعتقاد بأن هزيمة 1967 كان لها أثر كبير في معاداة الناس لهذه اللغة ولو بشكل غير واعٍ، ذلك أن اللغة باعتبارها خير معبر عن الهوية القومية، قد فقدت الكثير من كبريائها بعد أن تعرض الوطن، الممثل للفكرة القومية، للهزيمة والاحتلال. وهكذا بدأت تتراجع الحفاوة التي يمنحها المصريون للغة، علي الرغم من أنها لغة القرآن الكريم، أي أنها مشمولة بالقداسة، لكن انشطار الروح الذي أحدثته الهزيمة كان أكبر مما يحتمله الناس، فكفروا بالأفكار القومية التي كان يبشر بها زعيمهم الخالد، واستخفوا باللغة التي تمثل وعاءً لهذه القومية! المحزن أن هزيمة 1967 لم تكن تستدعي كل هذه الأحزان، ولا كانت تستوجب كل هذا الكفر بالقومية العربية ولا بالرئيس جمال عبد الناصر (1918/1970) ، ذلك أن قراءة أولية لحركة الشعوب الناهضة والحروب الكبري في التاريخ تعلمنا أن الدول المهمة تتعرض دوماً للعدوان من قبل جيرانها، أو تطمع في خيراتها دول أقوي منها. ولنا في الحرب العالمية الثانية أسوة حسنة، فقد احتلت جيوش هتلر باريس نفسها، ومع ذلك لم يتأوه الفرنسيون من وخز الضمير، ولم يتعرضوا لانهيارات نفسية شديدة، بل قاوموا وانتصروا. وتلك قصة أخري قد أعود إليها يوماً ما بتفصيل أكثر. مسلسل الانهيار (السلام شوبينج سنتر لملابس المحجبات) هو اسم محل افتتح في حي مصر الجديدة بالقاهرة في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم. وقد عدّ بعضهم هذا الاسم الغريب للمحل آنذاك رمزاً لبداية الانهيار السياسي والاجتماعي واللغوي، ومعهم حق. ذلك أن هذه اللافتة التي وضعت علي المحل تحتشد بكل ما يمزق الجهاز النفسي لشعب ظل طوال الوقت يري في إسرائيل العدو الأول علي الرغم من الاتفاقية المشبوهة التي عقدها معهم الرئيس الأسبق أنور السادات (1918/1981)، كما أن هذه اللافتة تحتقر اللغة العربية علي حساب تمجيد اللغة الإنجليزية، حيث كتبت المفردات الإنجليزية بحروف عربية من باب الاستهانة والإذلال. دعك من المكر الكامن وراء الربط المقصود بين السلام والحجاب، وكأن الحرب والقتل والدمار أمور مقترنة بالسفور! منذ ذلك التاريخ (نهاية السبعينيات)، لم تتأخر جحافل الذين يكرهون اللغة العربية من بني جلدتنا في الإعداد الجيد للقضاء علي رونقها والسخرية منها، فأخذت اللغة الإنجليزية تتسلل بخبث لتحتل واجهات المحلات، فشاعت كلمات إنجليزية مكتوبة بحروف عربية مثل (مول، وسوبر ماركت، وسيتي سنتر... الخ)، كما لم يتراجع الاهتمام بتدريس اللغة العربية في المدارس من سنة إلي أخري فحسب، بل راح هذا الاهتمام يخبو من قرن إلي آخر بامتداد عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، الأمر الذي جعل الكثير من طلاب الجامعة الآن لا يتقنون التعبير عن أنفسهم بعبارات صحيحة لغوياً وإملائياً. في الوقت الذي أصبح فيه تعلم اللغة الإنجليزية وإتقانها هو السبيل الوحيد تقريباً الذي يفتح أبواب الوظائف المحترمة أمام هؤلاء المحظوظين الذين نالوا قسطاً معتبراً من تعلم هذه اللغة. أرجو ألا تظن أنني ضد تعلم الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأجنبية، أو أنني أستهجن استعارة بعض المفردات من لغات أخري لنطعم بها لغتنا ونثريها، فهذا أمر غير وارد في خيالي بالمرة، كما أنه غير عملي، فإتقان لغة أجنبية واحدة علي الأقل أصبح ضرورة حتمية الآن ليتمكن الإنسان من مواكبة العصر والاطلاع علي ثقافات الشعوب الأخري وعاداتها وخباياها في ظل الثورة التكنولوجية المذهلة التي تجتاح العالم كله حالياً. لكن هذه الضرورة التي تفرض علي المرء أن يتقن لغة أجنبية، أو يستعير كلمة من قاموس لغوي آخر، لا تعني علي الإطلاق أن يتعامل الواحد منا مع لغته الأم بإهمال، فلا يجيد الكتابة بها، ولا يتقن استخدامها في التعبير وطرح الأفكار التي تتلاطم في عقله. جرائم الإعلام مع الأسف تزامن انهيار تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية والخاصة، مع تراخٍ مشبوه في التعامل بها واحترامها من قبل الكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. انظر حولك وتأمل كيف يتحدث المذيعون المتألقون في برامجهم الحوارية (لاحظ أنهم يسمونها التوك شو) بلهجة عامية رخيصة، وكيف لا تتأفف المذيعات الجميلات من استعمال عبارات سوقية ومبتذلة وهن يخاطبن ملايين المشاهدين. فإذا استثنينا نشرات الأخبار، فإن كل ما يقدمه التليفزيون المصري، بقنواته الأرضية والفضائية، يسبح في نهر اللهجة العامية الركيكة، الأمر الذي يفضح الهزال اللغوي والمعرفي الذي يعتري القائمين علي هذا الجهاز الإعلامي الخطير بقياداته ومعديه ومذيعيه الأفاضل ومذيعاته الفضليات! أما إذا قمنا بإطلالة سريعة علي الصحف المسماة قومية ، والحزبية والخاصة، فسوف يغمرنا العجب والحزن معاً من حجم هذا العدوان المنظم علي لغتنا العربية الفصحي، فالكثير من هذه الصحف لا تخجل من أن تصوغ عناوينها الرئيسة باللهجة العامية، فضلاً عن أن العديد من كتابها يدبجون مقالاتهم باللهجة إياها، كما أن الغالبية ممن يحافظون علي الكتابة باللغة العربية الفصحي لا يعرفون قواعد هذه اللغة وسحرها وحلاوتها، وبالتالي تظهر مقالاتهم في صياغات مضجرة، خالية من الحرارة، ذات عبارات قلقة وتعبيرات غليظة تنفر القارئ وتحرمه من الاستمتاع بمطالعة مقال جميل بلغته الأم. دعك من الإعلانات التي تكتب باللهجة العامية وتتصدر الصفحات بمساحات ضخمة في إشارة دالة إلي فساد الذوق. لا تقل لي من فضلك أن اللهجة العامية هي الأقرب إلي ذوق الناس وفكرهم ومزاجهم، لأنني سأذكرك بكوكبة معتبرة من المبدعين المصريين (أدباء وصحفيين) الذين احتشدت الصحف بمقالاتهم البديعة، تلك التي أنجزوها بلغة عربية فصيحة ورقيقة وجميلة، ما جعل القراء يقبلون عليها بشغف ويطالعونها بمحبة. وبعض هؤلاء الكتاب ما زال يكافح بلغته الجميلة طوفان الاستسهال والابتذال الذي تعاني منه لغتنا الفصحي في هذا الزمان. خذ عندك طه حسين وعباس العقاد وسلامة موسي وإبراهيم عبد القادر المازني ومحمد التابعي وأحمد الصاوي محمد ومحمد زكي عبد القادر وزكي نجيب محمود ومحمد حسنين هيكل ولويس عوض وبنت الشاطئ وأحمد بهاء الدين وعلي الراعي ورجاء النقاش وفاروق عبد القادر وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح فضل وجابر عصفور وفهمي هويدي وسلامة أحمد سلامة وجلال أمين وصلاح عيسي وجمال الغيطاني وكمال رمزي ومحمد المخزنجي وعبد الله السناوي وعبد الحليم قنديل وحسن نافعة وعمرو الشوبكي والقائمة ممتدة ومشرقة. طه حسين وتجديد اللغة أذكر في طفولتي أن الإذاعة المصرية كانت تقدم برنامجاً عن اللغة العربية تتصدره عبارة مدهشة لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يلقيها بصوته الرخيم وأدائه المدهش. هذا هو منطوق العبارة (لغتنا العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه من ألفاظ لم تكن مستخدمة في العصر القديم). نعم... اللغة كائن حي يتعرض للمرض والعطب والموت إذا لم نحافظ علي حيويته ونرعاه، كما أن اللغة تتأثر باللغات الأخري وتؤثر فيها إذا كان لها من الحضور والقوة ما يؤهلها لذلك. فلا توجد لغة نقية تماماً، مثلما لا يوجد عرق بشري صاف تماماً، وعليه يصبح من المحتم أن نجتهد لتطوير لغتنا الفصحي حتي تستطيع أن تلبي احتياجات المرء في هذا العصر. صحيح أن الأستاذ العميد أباح ابتكار واستخدام ألفاظ عربية جديدة حتي يمكن للغة أن تساير الزمن، إلا أنه نسي أن يضيف أن تجديد اللغة الذي طالب به لا يقف عند حد تطعيمها بمفردات جديدة فقط، بل يتجاوزه نحو ضرورة اختراع تراكيب وصور لغوية مغايرة ومتفردة تتمكن من رصد أفكار وخيالات المرء في مطالع القرن الواحد والعشرين. اقتراحات سريعة أدرك تماماً أن إعادة البهاء المفقود للغتنا العربية الفصحي أمر شاق في ظل مناخ بائس كان يناصب هذه اللغة العداء ويسخر منها، وهو ما ظل يحدث طوال الأربعين سنة الماضية تقريباً. لكن مع نجاح ثورة 25 يناير المجيدة يصبح من الواجب علينا العمل بجدية علي البحث عن حلول ناجعة تسترجع بها لغتنا العربية كرامتها المستباحة وألقها القديم. يخيل إليّ أننا بحاجة إلي الحفاوة باللغة في مدارسنا من خلال وضع مناهج جديدة وعصرية تحبب التلاميذ في لغتهم وتجعلهم يتسابقون للتفوق فيها. كما يجب سن قوانين ملزمة تفرض علي أي محل أن يكتب لافتته باللغة الفصحي، مع السماح له بكتابة عنوان المحل باللغة الإنجليزية إذا أراد، ولكن بخط أصغر من العنوان المكتوب بالعربية. يمكن أيضاً تطوير العمل في القنوات التليفزيونية بالإصرار علي أن يتحدث جميع المذيعين باللغة الفصحي، وهو أمر شائع في قنوات مثل الجزيرة والعربية اللتين تحظيان بنسب مشاهدة عالية جداً تتفوق علي نسب مشاهدة التليفزيون المصري بقنواته الخائبة وبرامجه التافهة. كذلك نستطيع أن نجد الوسائل التي تجعل صحافتنا تحترم اللغة العربية أكثر، فلا تتمادي في الاستخفاف بها والتعالي عليها. قبل أن أختم أود أن أشير إلي أن دفاعي عن كرامة الفصحي لا يعني الاستهزاء باللهجة العامية الراقية التي استطاع شعراء كبار أن يعبروا عن دواخلهم بهذه اللهجة، فأبدعوا وتألقوا أمثال بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم، حيث أتحفونا بقصائد بالغة الرقة والعذوبة بتلك اللهجة العامية. ولكن تلك قصة أخري.