تنتظم الأفكار الكبري( التأسيسية) في حركة سير التاريخ الإنساني مثل عربات قطار تتالي مرورا علي محطة( التأثير والفعالية), بحيث تبلغ كل فكرة كبري ذروة تحققها في عصر ما دون غيره, حتي تستحيل مرجعا يقاس به وإليه حركة الفاعلين في عالم هذا الزمان, قبل أن ترثها فكرة كبري أخري أقدر منها علي حمل أعباء عصر جديد يكون التاريخ فيه قد ارتقي, وبلغ درجة أكبر من التعقيد, وهكذا. ومن ثم كانت الأفكار القادرة علي صوغ العالم هي دائما الأكثر حداثة, وارتباطا بعصرها, وقدرة علي تلبية متطلباته. ففي مرحلة ما كان الدور الرئيسي لأفكار خرافية مثل السحر والحسد, وفي مرحلة تاريخية تالية ارتبط هذا الدور بأفكار مثل العرق والنبالة الأرستقراطية والبطولة الشخصية, وفي مرحلة أكثر نضجا تسمي في التاريخ ب( العصر المحوري) وتمتد تقريبا في القرون الست السابقة علي ميلاد السيد المسيح والقرون الست التالية له, احتكر الدين هذا الدور فيما لعبت الأفكار الأخري أدورا هامشية. أما الحقبة الحديثة فشهدت بزوغ أفكار جديدة محفزة للتاريخ سواء كانت فلسفية كالحرية والفردية, أو سياسية كالدولة القومية والعلمانية والديمقراطية, أو علمية حيث التكنولوجية هي رافعة الحياة, وموجهة التاريخ, فيما أصبحت الأفكار الأخري تابعة لها في قيادة تاريخنا المعاصر. وبالطبع ثمة فارق أساسي هنا بين الأفكار الدينية, وبين الأفكار الوضعية; فالدين ظاهرة إنسانية كبري تتوزع علي مستويين متمايزين: مستوي أولي يتمثل في خبرة الاتصال العاطفي مع المبدأ الإلهي/ القدسي, وهي خبرة خاصة جدا, متفردة تماما, كونها حوارا مع خالق الكون وروح الوجود, يترقي فيه الإنسان بقدر ألقه الروحي, واستنارته الباطنية فيما لا سبيل إلي تعلمه من أحد أو نقله إلي أحد. وعلي هذا المستوي لا يمكن الحديث عن تاريخية الفكرة الدينية, فهي خالدة بقدر ما هي متسامية, تظل قادرة علي إلهام معتنقيها طالما ظللوا مؤمنين بها. ومستوي ثانوي يتم فيه تجسيد هذه الخبرة في معتقدات وعبادات وتنظيمها في طقوس وشعائر, ما يجعل منها معرفة وتقاليد, تدور حول نصوص ونقول, ويحيلها نسقا يمكن الخروج منه والدخول إليه.. نقله عن سابقين وبثه في لاحقين, والاشتراك فيه مع آخرين. وعلي هذا المستوي تكون( التاريخية) هي قدر الفكرة, والتغير هو مصيرها الحتمي, وهو ما يخضع تلك الفكرة, للمبدأ العام للحركة التاريخية, فيكون عليها الإنسحاب من بؤرة الفعل إلي هامشه, حيث التخلي عن الدعاء بالقدرة علي تنظيم حركة المجتمع, أو علي قيادة التطور العلمي.. الخ. وقد ترتب علي ذلك وحدة عميقة في الحضارة الإنسانية, فكانت هناك دوما حضارة سائدة, تفرض منطقها علي الزمان, وتمد سيطرتها علي المكان, والفارق فقط بين أبنائها المنضوين تحت رايتها, وبين الآخرين المعاصرين لها هو الفارق بين الرائد والتابع, بين المؤثر والمتأثر, بين الصانع والمستخدم. هكذا كانت حضارتنا سائدة في عصر والغرب تابع, ثم تغير الحال وتبدلت المواقع الآن, من دون أن تستطع أي من الثقافتين الهروب من زمانها أو تحدي منطق عصرها. غير أن ثمة مشكلة قد تثور حال فقدت الفكرة المحفزة قدرتها علي التحكم بعالمها, ذلك أن فشلها في تحقيق السيادة, لا يعني موتها أو انسحابها من التاريخ, بل فقط انزياحها من بؤرته إلي هامشة, لتعلب أدوارا فرعية في مجريات هذا العصر أو ذاك علي نحو يسير في أحد اتجاهين: الاتجاه الأول هو الإسهام الايجابي في حركة العصر إذا ما انصاعت الفكرة لمنطق التاريخ فأحسنت التكيف معه والإندراج في سياقه كفكرة ملهمة أو مساعدة, فالدين مثلا يمكن أن ينزاح من المجال العام إلي ضمير الفرد المؤمن, ممارسا دورا روحيا هائلا, إذ يقدم له الصبر علي مآسيه, ويعطيه التعزيه علي نحو يحقق له توازنه النفسي, أو يلهمه الأمل في تجاوز مصاعب عيشه, ويمنحه الثقة في أن المستقبل أفضل, ما يساعده علي النجاح فعلا, وهكذا. والاتجاه الثاني هو مشاكسة حركة هذا العصر إذا ما حاولت الفكرة المحفزة تحدي منطق التاريخ وسعت إلي إعاقة الفكرة الكبري المؤسسة له, وقطع طريق سيرها الأمن. فعلي الرغم من أهمية الفكرة وقيمتها في ذاتها, فإن محاولتها تصدر مشهد الزمن في غير أوانها, غالبا ما يولد طاقة سلبية, غير بناءة, تعمل ضد حركة عقارب الساعة, تعطل الطاقة الإيجابية للفكرة المؤسسة, الأكثر قدرة علي الحفز والتشييد والبناء, وذلك علي النحو الذي يمثله أرباب الإسلام السياسي عندما يتصورون أن نماذج حكم معينة تنتمي لعصر مضي, وتستند إلي تأويل ديني نفعي ضيق الأفق, تستطيع أن تحكم زمن حاضر أو مستقبل آت لمجرد إنها تحمل شعارا جذابا, أو تستند إلي عقيده حية, تبقي ملهمة, لضمائر المؤمنين ولكن عاجزة عن صنع عالمهم علي النحو الذي تمثله قيم الحداثة السياسية منذ أربعة قرون علي الأقل, فلا الروح الوطنية يمكن وأدها في هذا الزمان, ولا العلمانية السياسية يمكن التنكر لأهميتها في هذا العصر, ولا النزعة الفردية يمكن الخلاص منها في تلك الثقافة, ولا الديمقراطية يمكن تجاهلها باعتبارها الثمرة الجميلة لهذه المتوالية. إنها أبجديات الحياة الجماعية والتنظيم السياسي في عالمنا, وكل محاولة لإهدارها غير مثمرة لأنها تضاد طبيعة الأشياء ومنطق التاريخ, بل وهوي الناس, ليس فقط أولئك الواعين بها, بل وأيضا أولئك الذي يجهلونها نظريا ويعيشونها واقعيا. فثمة شخص, يشبه كثير من الناس, لا يعرف أصول النزعة الفردية, ولكنه يعيش تجلياتها. فإذا ما حاول أحد أن يكسر نمط حياته تصدي له بقوة, إنه يدافع عن ذاتيته كإنسان. لقد خرج الكثير من المصريين في الثلاثين من يونيو اعتراضا ليس فقط علي أوضاع حياتية صعبة ولكن دفاعا عن نمط حياة معتاد ومألوف بعد أن وجدوا جماعات الأمر بالمعروف تقتل الناس باسم الدين, وتحاصرهم مؤسساتهم باسم الإسلام, وتفتك بمقومات دولتهم بزعم مشروع إسلامي لم يلمسوه أبدا. فعلوا ذلك من دون إدراك لمفاهيم الدولة الوطنية والروح المدنية والعلمانية السياسية, ولكن بتأثير الآلام الكبري التي ولدتها تجربة عام واحد من حكم ديني تنكر لحضورها وقيمتها التاريخية. ..................................................................... * هذه المقالة هي ملخص ورقة طويلة قدمها الكاتب لندوة( مستقبل الإسلام السياسي في الوطن العربي), والتي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية, بالإشتراك مع المعهد السويدي بالإسكندرية, في بيروت في الثلاثين من نوفمبر الماضي. لمزيد من مقالات صلاح سالم