عندما تحاول الاقتراب لأول مرة من فنان مبدع استطاع أن يفرض اسمه وأعماله عبر اجتهادات ومعاناة طويلة تتوجس خيفة من دخول عالمه, لكن ما أن تجالسه وتتجاذب معه أطراف الحديث حتي تزول تلك الرهبة, ويحل محلها نوع من الدفء والحميمية. هذا ما استشعرته مع اللحظات الأولي من حواري مع الفنان العراقي باسم قهار, عربي الهوية, والذي خطفته نداهة المسرح عندما أصطحبه شقيقه الأكبر إلي مسرح بغداد وهو في التاسعة من عمره, فوقع في أسر هذا العالم المليء بالأزياء والألوان والمواهب, وقرر علي الفور أن ينتمي إلي هذا العالم السحري, وبالفعل التحق بأكاديمية الفنون ببغداد, وقدم في سنته الأولي بالمعهد أول أعماله المسرحية كمخرج وممثل عبر مونودراما' أغنية التم' لأنطوان تشيكوف, وشاهدها الرائد المسرحي الكبير سامي عبدالحميد أستاذه في الأكاديمية وبهر بها, وفي اليوم التالي فتح شبابيك الأكاديمية وطالب بأعلي صوته أن تشاهد العراق كلها وليس فقط الأكاديمية هذا العرض المدهش, وإبداع هذا الطالب الذي ينتظره مستقبلا باهرا. تمر الأيام ويتخرج الطالب باسم وتتعدد روافد إبداعه, فيقدم خلال مسيرته المسرحية التي تمتد لأكثر من ربع قرن قضاها متنقلا بين العراق وسوريا ولبنان وأستراليا أكثر من30 عملا مسرحيا, حاول فيها تحقيق شيئين مهمين هما: تحرير الجسد العربي من قيوده, وأن يتحول عرضه إلي قصيدة بصرية, وشعر للعين, ولم تقتصر أعماله الإخراجية علي المسرح فقدم حوالي17 فيلما وثائقيا, و25عملا تليفزيونيا كممثل, وعملين كمخرج, وتبقي راحة قهار الكبري في أن يعمل, وفي أن يحلم من أجل أن يعمل. علي مقهي بسيط في وسط البلد استقبلني بحفاوة, لأكتشف من البداية أنه يعيش في القاهرة منذ عامين, ومتزوج من سيدة مصرية, ويعرف القاهرة أكثر مما أعرفها, ودار بيننا هذا الحوار الذي كانت الإبتسامة فيه' مشروع' علي شفتيه, والحزن مرسوم في عينيه, فإليكم تفاصيل ما دار بيننا. بداية يهمني أن أعرف لماذا عندما تزور بلد ما تحرص علي شيئين أن تزور مسارحها وتجلس علي مقاهيها؟ بإبتسامة ودودة: المسرح لأنه عشقي الأول والأخير, فرغم تقديمي لأعمال مهمة في مجال التمثيل والإخراج التليفزيوني, والأفلام الوثائقية, إلا أن المسرح يظل' صنو' أو مرادف لإسمي, أما الجلوس علي المقاهي فهي عادة اكتسبتها منذ كان عمري20 عاما, وأصبحت ضرورة في حياتي اليومية, فأبدأ يومي وأنهيه عليها, وهي تجمع إجتماعي, ومكان للحوار والنقاش مع الآخرين, أومع الذات, أو لقراءة الجرائد اليومية أو الكتابة أحيانا. قدمت أعمالا كثيرة كمخرج و ممثل, ما طبيعة الأعمال التي تستفزك لتقديمها كمخرج أو ممثل؟ الأعمال التي تحمل فكرة أو سؤال أريد طرحه, والمتابع لأعمالي الإخراجية تحديدا سيجد فيها رسالة أو سؤالا أريد إيصالهما, فعندما قدمت مسرحية' ماكبث' لشكسبير تحدثت عن الديكتاتورية القابعة علي صدور الشعوب العربية, وفي' العميان' ل' ميترلينج' اكتشفت غياب البطل القائد أو الدليل للشعوب العربية, وهكذا الحال مع باقي أعمالي الأخري, دائما أثير أسئلة ولا أضع حلولا, لأنه ليس من مهمة الفكر أو الفن وضع حلول, فقط يطرح أسئلة تصدم الناس! هل هذه الأسئلة دائما متوفرة في أعمالك كممثل؟ أحاول بقدر الإمكان أن تكون موجودة, لكن قد لا يمنحني دوري كممثل أن أقول كل شيئ أوأن أطرح الأسئلة التي أريدها, لكنني كمخرج لدي حرية أكثرفي اختيار النصوص التي أريد التعبير فيها عن رؤيتي فيما يحدث حولي علي مستوي العالم, لهذا أحب عملي في الإخراج أكثر لأن الإخراج ليس مهنة قائمة علي التعلم بل موهبة وخلق وإعادة التفكير في العالم, لكن هذا لا يمنع أن يستفزني دور يعرض علي الخلايا النائمة بداخلي كممثل فأقدمه, أو صداقة تربطني بمخرج فيعرض علي دور ويلح في طلبه لأنه يراني في هذا الدور فأوافق. مشوارك مليء بالأعمال التي اكتسبت شهرة عريضة في العالم العربي, لكن يظل لعمل ما مكانة خاصة أو درة أعمالك المسرحية؟ مسرحية' الأيام المخمورة' للكاتب الكبير سعدالله ونوس, لقدرتي علي ترجمة فهمي للعرض المسرحي, وقدرتي علي تأسيس الدهشة البصرية التي تشبه دهشة السينما, وتقديم أداء مغاير ومختلف للممثلين الذين يعملون معي, وتوظيف الجسد وجعله ما يشبه الأبجدية الموازية للإبجدية اللغوية, كما أزلت وحذفت كل الزوائد في النص, وحاولت أن أستفز خيالي إلي أقصي طاقة لتقديم ساعتين لنص نثري متعب, لأنني أري أن المخرج ليس الناطق الرسمي باسم المؤلف, لكنه أحيانا يختلف مع المؤلف في كثير من الأشياء, و ليس معني اختلافه أن يحذفها لكن يمكن إعادة توجيهها, وإعادة تطوير السؤال الداخلي فيها. حذفك للزوائد في النصوص التي تقدمها جعل البعض يتهمك بتدمير وتخريب الأعمال التي تتصدي لإخراجها وتقديم رؤيتك الخاصة؟ كلمتي' تخريب وتدمير' ليستا دقيقتين اصطلاحيا, لكن كل ناقد حر في رؤيته, وما أقدمه ليس تدميرا ولكنه إعادة البيئة النسقية الفكرية للنص من الداخل, بمعني ثمة أسئلة للنص وثمة أفكار, ليست بالضرورة أن تكون كلها مركزية أومناسبة لتقديمها, ولكني أختار من النص أسئلته الداخلية وما أريد أن أقوله, وأبحث عن روح وجمرة الدراما الداخلية المختبئة داخل النص, ليس الصراع بين شخصين ما يجذبني, لكن ربما سؤال صغير متطرف أو غير واضح في النص يمثل لي سؤالا كبيرا ومهما, وأبحث أيضا عن المعلن والمكتوم, وما الذي يشكل هاجسا مشتركا بيني وبين المتلقي. طالما لديك وجهة نظر ورؤية في النصوص التي تقدمها لماذا تلجأ إلي الأعمال الأدبية سواء العربية أو العالمية ولا تقدم أعمال معدة خصيصا للمسرح؟ قدمت العديد من العروض المكتوبة خصيصا للمسرح, لكن لدي قناعة بأنه لا يوجد نص مقدس, وأي نص سواء معد للمسرح أو مأخوذ من أعمال أدبية أو نثرية أو شعرية ليس نصا مكتملا علي الإطلاق, والنص الكبير نصا مفتوحا علي الزمن المضاف, وعلي أسئلة جديدة, وعلي الإضافة والحذف, فعندما كتب لي الشاعر الكبير مظفر النواب نصا نثريا خصيصا لي عن تجربة شخصية بعنوان' العربانة', وجدت فيه كثير من الأدب لا يصلح مادة مسرحية تؤدي علي المسرح, فاتفقت معه علي رفع الزوائد وحذفها, لهذا قدمنا عرضا مسرحيا محكما علي مدي ساعتين, ونفس الشيء فعلته في مسرحية سعد الله ونوس' الأيام المخمورة'. أيهما يعطيك كمخرج الحرية في الإبداع والإنطلاق أكثر النص الأدبي أم المكتوب خصيصا للمسرح؟ الأعمال الأدبية نصوص مفتوحة أكثر من النصوص المسرحية, فالرواية فيها روح الملحمة الداخلية لهذا تسحرني في إعادة خلقها علي المسرح, وشخصياتها تشعرك إنها أكثر انفعالا خلقيا, وأكثر توترا. البعض اتهمك بالغرور عندما ذكرت أنك علي استعداد أن تقدم للمسرح نص من كلام الجرائد أو من دليل التليفونات؟ ضاحكا: هذا الكلام بالفعل ذكرته لكن فيه نوع من المبالغة!, ولكنه ليس مستحيلا!, ليس صعبا أن تشكل علاقة من دليل التليفونات علي أساس أنه موجود هناك صراع, وهذا الصراع ممكن أن يكون بين رقمين أو إسمين, والحقيقة إنني أهتم بالتفاصيل أكثر من أي شييء آخر, باعتبار أننا جميعا كشخصيات تشكلنا مجموعة تفاصيل, زمن الرومانسيات والأحداث والأسئلة والمقولات الكبري في المسرح انتهت من التاريخ, نحن الآن في عصر التفاصيل الصغري التي تشكلنا ونحن نشكلها,لهذا مازال مسرحنا مراهقا مقارنة بالمسرح الأوروبي أو الأغريقي. لكن اسمح لي أنه رغم هذا لا نجد هذا المسرح المراهق وإذا وجدناه لا نجده بقوة ما قدم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بماذا تعلل ذلك؟ أزمة المسرح سببها أزمة الحياة, والمسرح يحتاج لكي تستمتع به إلي الإستقرار, بحاجة إلي زمن تأملي, أن تتأمل أكثر مما تضطرب مع الأضطراب, أما لماذا لم يعد بقوة مسرح الأمس, لأن الحياة في الماضي كان فيها انفتاح وتعددية وتقبل الآخر, وكانت أقوي وأجمل, الشعوب العربية كانت تتطلع إلي مستقبل أفضل من حيث الثقافة والصحة والتعليم والفن, لكن الآن حصلت ردة فظيعة, وانحدار بداية السبعينات حتي وصلنا إلي نقطة الصفر الآن, ولا أريد أن أكون متشائما وأقول إلي نقطة الإنحطاط الأولي, نقطة التدني, لأن نقطة الصفر معناها إننا علي أول الطريق أو في طريقنا للانطلاق, لكننا للأسف نعيش حالة تدن فني وجمالي علي كل الأصعدة, ما يعكر صفونا الآن كوننا بشر إننا أصبحنا متخلفين! رغم عشقك للمسرح وحزنك علي ما وصل إليه إلا إنك تقول أن المسرح غير قادر علي التغيير لماذا؟ هذا صحيح فتقديم1000 مسرحية لن يفلح في وقف طلقة رصاص واحدة, فالمسرح فقد قدرته علي التغيير, لأنه فقد قدرته كمعلم وأب وبؤرة تعليمية مهمة بعد أن هجره جمهوره, وانشغال السياسيين والحكام وعدم الذهاب لمشاهدته, المسرح الآن' ممكن يقول لك كلمتين' في السياسة, لكنه يشحن الجماهير للتغير لم يعد لديه هذه القدرة, بدليل أن جموع من البشر تخرج في مظاهرات لتقول رأيها ولا أحد يعيرها إهتماما. دعني أنتقل بدفة الحوار إلي شاطئ آخر وأسألك: لماذا خنت المسرح وقدمت مجموعة من الأفلام الوثائقية؟ أهم سبب إنني كنت أريد مخاطبة شريحة جماهيرية أكبر من شريحة جمهور المسرح, وكانت البداية من خلال فيلم' سفير في المقهي' ونجاحه الضخم جعلني أكرر التجربة في أفلام أخري, وحاولت' أنسنة' الكاميرا وجعلها' تتلصص وتبحث وتراقب حركة الناس وتفاصيلهم وهواجسهم ومتاعبهم وآهاتهم, وستلاحظ في أفلامي الكثير مما هو يومي وبسيط ومعقد بنفس الوقت, أي السهل الممتنع, لأنني أريد أن أقدم الحياة كما هي في فيلم' الشافعي بريد المقهورين' علي سبيل المثال أردت أن ألقي الضوء علي هذا التشبث بالغيبيات لدي الناس الفقراء والمضطهدين الذين يبعثون آلاف الرسائل سنويا إلي ضريح الإمام الشافعي في مصر, في ظل وجود خلل في المؤسسات الرسمية العربية, وفي فيلم' الخاتون' طرحت قضية خطيرة وهي هجرة62 ممثلة عراقية في بلد يعاني أصلا من قلة النساء علي مسارحه وفي تلفزيوناته وسينماه, وأري أنهم خرجوا وخرجت بهجة العراق معهم, ولكن عندما يعود العراق معافي ويحتاج أبناؤه سيعود هؤلاء النساء ويجب أن يحترمن لأنهن ممثلات ولأنهن يؤسسن للجمال والفن والفرح', وهكذا في باقي الأفلام. ما أسباب إتجاهك للإخراج التليفزيون وتحديدا ما سر تقديمك لمسلسل' الباب الشرقي'؟ بعد شهر من ثورة الشباب المصري في25 يناير, قام بعض الشباب العراقي بالتظاهر, والتعبير عن أنفسهم, مثل أقرانه في دول المنطقة ونظرا لعدم وجودي معهم في العراق أثناء تلك التظاهرات, فأحببت أن أعبر عنهم, ووجدت ضالتي في هذا المسلسل المليء بالتفاصيل المكثفة, ووجدته فرصة للتواصل مع قضايا الوطن, فضلا عن طرحه لقضية مهمة وهي ضياع الدولة بين فساد القائمين عليها وطائفيتهم. تشهد الدراما المصرية والسورية والخليجية نجاحا منذ سنوات لماذا لم تحقق الدراما العراقية نفس النجاح رغم امتلاكها لقدرات فنية مهمة؟ لغياب رأس المال الضخم الذي ينفق بسخاء علي الدراما العراقية, فرغم وجود90 قناة فضائية إلا أن بعض هذه القنوات تنتج أعمالا درامية فقط لمليء ساعات إرسالها, وليس للتسويق أو لترويج الدراما العراقية كما تفعل بعض القنوات مثل محطة'MBC' التي نشرت الدراما الخليجية.