كان الإمام مالك بن أنس( ت971 ه) فقيها بارعا نبيلا, وإماما فقيها كبيرا, من الائمة الأربعة, قمم مذاهب الفقه الرشيد, وسراج العلم الهادي الغزير, وهو صاحب كتاب الموطأ الذي جمع فيه ماصح عنده من أحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم, وصاحب آثار علمية أخري, ومواقف كريمة يوقرها الدارسون, وكل من عرفوا هذا العالم الجليل, عاشق مدرسة النبوة, وابن مدينة رسول الله, يدينون له بالطاعة والاحترام والاجلال. يقول يحيي بن يحيي أحد تلامذته من الاندلسيين, بعد ان أقام عنده سنة: إنما أقمت مستفيدا لشمائله, فإنها شمائل الصحابة والتابعين. يقول الإمام الشافعي: مالك معلمي وأستاذي, ومنه تعلمنا العلم... وفي مدرسة هذا الإمام الغنية بالطلاب برزت عنايته بتوجيه الشباب, وتدفقت نصائحه الطيبة, تحتفل بالورع والتقي والخلق الكريم, فهو حريص كل الحرص علي أن يتمسكوا بوجوه الهداية والاستقامة والعفة, ورعاية الله في كل مايقومون به, يقول للشافعي, حين ذهب إليه للاستفادة من علمه: يامحمد اتق الله واجتنب المعاصي, فإنه سيكون لك شأن من الشأن. ويؤكد لمن طلب نصيحته أن صلاح الأمر يرجع الي الأخلاق, والحذر من عذاب الله وحسابه, فالفوز يكون بالعمل الصالح, والنجاة تكون بتقوي الله, في الناس والعرض والمال, وإشاعة العدل, والإشاحة عن الظلم, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, واهتمامه بالمكارم والفضائل والمحاسن يحظي عنده بنصيب كبير من العناية, فالعلم لديه نور لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع. وهو يقول: حق علي من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية. ويحذر من احتقار الذنب الصغير, فيقول في إحدي نصائحه: ولا تحقر الذنب الصغير مع ماقد علمت من قول الله تعالي:( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). وقوله:( مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). والفقيه الكبير يدعو الشباب الي الحفاظ علي فرائض الله, واجتناب سخط الله, والحذر من دعوة المظلوم, والبعد عن الشرور والآثام, وتدبر قول المولي عز وجل: واتقوا يوما ترجعون فيه إلي الله. ولا يقف عند هذا الحد فهو يذكر دائما بالموت, والحساب, والثواب والعذاب, والبعث, والجنة والنار, والوقوف أمام الله, حيث يكون المرء عاريا من كل قوة, خاليا من النفوذ, وحيدا لا يفيده مال ولا يحميه جاه. وإلي جانب ذلك فإنه يحث كثيرا علي مراعاة الصواب, وخشية الله, ووزن كل كلمة بميزان دقيق, والاعتصام بالاتقان والمعرفة, والتواضع, فمن تواضع لله رفعه, ويري أن من يود رضوان ربه وكرم خالقه, ونضيرة وجهه, ونور كونه, والسرور بالنظر الي المولي عز وجل والمكانة منه فإن عليه أن يطيع الله. من العمل لليوم الآخر, وصرف السيئة عن النفس, ورعاية حق الله بالليل والنهار فإنه يجنب الانسان من الحسرة عند نزول الموت, ويوصله الي النجاة, والخلاص من عذاب الله. ومن أهم نصائحه التحذير من أربعة لا يؤخذ منهم العلم, حيث يقول: لا يؤخذن العلم من أربعة, ويؤخذ ممن سواهم, لا يؤخذ من سفيه, ولا يؤخذ من صاحب هوي يدعو إلي بدعة, ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس.. ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف مايحمل ويحدث به. والافتاء يظفر منه بموقف واضح رائع يبين خطورته, فالإقدام علي الفتوي, يستلزم الاعتقاد الراسخ بأن ماينتهي إليه المفتي, ويقوله هو الصواب كل الصواب. يقول الإمام: من أحب أن يجيب علي كل مسألة, فليعرض نفسه علي الجنة والنار ثم يجيب, وقد أدركناهم إذا سئل أحدهم فكأن الموت أشرف عليه. فما أسعد شباب مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم بالإمام الورع, مالك بن أنس! لقد صنع كل مايمكن, للحفاظ علي استقامتهم, وصيانة شموخ عفتهم, ووجهم الي أن الأخلاق صاحبة المنزلة الرفيعة, وموضع الإجلال والفلاح, وليت شبابنا يستفيدون من نصائح هذا الفقيه الجليل والناصح الأمين. الأستاذ بجامعة الفيوم لمزيد من مقالات د. حامد محمد شعبان