قرأت أخيرا عن مطعم في قرية جرينويتش في ولاية نيويوركالأمريكية يقدم أطعمة شهية يحضرها أفضل الطهاة في تلك القرية. ولكن الذي يجعل هذا المطعم مختلفا عن أي مطعم آخر, أن سياسته تقوم علي عدم قبول مبالغ نقدية. حيث يقول مالك المطعم إن التعامل بالكاش أصبح يمثل مشكلة. و عندها تذكرت أنني خلال الشهور الأولي من عام2005 طلب مني كتابة عدة تقارير نفسية متخصصة لإرفاقها ضمن مستندات الدفاع عن شاب مصري يمثل أمام محكمة بريطانية. كان المطلوب تقييما لشخصيته و تنشئته, ولقيمه ودوافعه السياسية; كما كان مطلوبا- وهو ما يعنينا في هذا المقام- تقرير عن ولع المصريين بالكاش حيث إن الشاب المصري قد فسر احتفاظه بمبالغ نقدية كبيرة باعتبار ذلك سلوكا مصريا معتادا رغم أنه قد أثار قدرا كبيرا من الريبة لدي البريطانيين و اعتبر ضمن أدلة اتهامه. ومضت سنوات علي كتابة تقريري عن ولعنا بالكاش لأطالع أخيرا واقعة حقيقية وليست من قبيل المزح كشف عنها مؤتمر المدفوعات الالكترونية والخصم المباشر من حسابات العميل لسداد الأقساط أو الفواتير أو الالتزامات المالية عليه, الذي نظمته الخميس7 نوفمبر الحالي جمعية مخاطر الائتمان بالتعاون مع مؤسسة بنوك مصر التابعة للبنك المركزي, وهي أن حشرة العثة داهمت أوراق البنكنوت بخزائن احد البنوك وبالكاد تمت معالجتها, كما كشف المؤتمر أيضا عن أن ارتفاع التعامل الكاش في السوق المصرية, يتسبب في رداءة أوراق البنكنوت, و يقال إن تلك الرداءة كانت احد الأسباب فيما عرف بصفر المونديال وعدم حصول مصر علي تنظيم كأس العالم منذ سنوات. إن نسبة استخدام الكروت الائتمانية في سداد الالتزامات والأقساط والفواتير في مصر كما ورد في ذلك المؤتمر- لا تتجاوز1% حاليا مقابل نسب مرتفعة في المغرب و أكثر ارتفاعا في ماليزيا, و أكثر ارتفاعا من ذلك بكثير في الولاياتالمتحدة و الدول الأوروبية, أي أن أحدا لم يستطع أن يقنع الغالبية العظمي منا بأن هناك وسائل أخري يمكننا من خلالها سداد قيمة احتياجاتنا دون استخدام أوراق النقد في كل عملياتنا اليومية. و قد أشار أحد المتحدثين في المؤتمر إلي أن الأزمات المختلفة التي نتعرض لها منذ عام2011 قد أدت فيما أدت إليه- إلي زيادة تمسك غالبيتنا بثقافة الكاش وعدم الاستجابة لما تقدمه البنوك المختلفة من مغريات تحاول إقناعنا بالاستغناء عن استخدام الكاش, والاعتماد بشكل كبير علي الفيزا وماكينات الصرف الآلي وما شابه ذلك. تري هل من تفسير نفسي اجتماعي تاريخي لذلك العزوف عما هو أيسر إلي ما هو أصعب و أكثر مخاطرة؟ إننا لم نعرف العملات الورقية البنكنوت إلا عقب الحرب العالمية الأولي, و لسنا بصدد الحديث عن دور بريطانيا التي كانت تحتل مصر آنذاك في الترويج لتلك العملات الورقية و سحب الجنيهات الذهبية التي كنا نتعامل بها آنذاك; فهي قصة طويلة و مشوقة, و لكن لا يتسع لها المقام. كل ما يعنينا هو الإشارة إلي نفورنا منذ البداية من قبول التعامل بالبنكنوت إلي حد لجأت معه السلطات إلي إلزام التجار بتسليم ما يرد إليهم من عملات ذهبية للبنك المركزي لاستبدالها بأوراق نقدية. لقد ظللنا عبر تاريخنا الطويل ننفر من التعامل مع البنوك حتي بعد أن سادت بيننا ثقافة البنكنوت. و لقد حاولت من خلال رصد عدد من الدراسات المصرية الميدانية المتفرقة محاولة الإجابة علي هذا السؤال: لماذا تنفر غالبيتنا العظمي من التعامل مع البنوك, و استخدام بطاقات الائتمان؟ و نستطيع أن نلخص أهم ما انتهينا إليه كما يلي: أولا: ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية بيننا, و هو ما يشكل حاجزا ماديا بين غالبيتنا و التعامل مع البنوك. ثانيا: ثمة موقف ديني إسلامي متأرجح حيال التعامل مع البنوك عامة باعتبار أن أموال البنوك بها شبهة الربا, مما يدفع بالكثير حتي من بين المتعلمين إلي تحاشي مثل تلك الشبهات قدر المستطاع. ثالثا: قصور البنية التكنولوجية اللازمة للتعاملات المالية الإلكترونية من آلات و هواتف إلي آخره. رابعا: يرتبط التعامل مع البنوك و ما يقتضيه من تسجيل لتلك المعاملات من اختراق للخصوصية الفردية, و هو أمر يثير حساسية الناس بعامة بصرف النظر عن طبيعة ما يحرصون علي إخفائه عن عيون الآخرين; ذلك بالإضافة إلي الخوف من الحسد لدي الكثيرين, و محاولة التهرب الضريبي لدي البعض. خامسا: أن للذهب قيمة في ذاته, في حين أن ما عدا ذلك مجرد أوراق لا قيمة لها في ذاتها بل تكمن قيمتها في التزام السلطة التي تصدرها بضمان قيمتها; ومن ثم فإن الثقة في تلك السلطة تكون معيار القبول بما يصدر عنها; وتقل تلك الثقة إذا ما كان ثمة وسيط إضافي يتمثل في البنوك نودع فيها مالدينا من نقود, و لعل ذلك ما يفسر مقاومة غالبيتنا لاستبدال الأوراق النقدية بالذهب عقب الحرب العالمية الأولي; ثم النفور حتي الآن من التعامل مع البنوك. وخلاصة القول إن توافر الثقة في السلطة, وفي التزامها بما يصدر عنها يلعب دورا أساسيا في ذبول ثقافة الكاش و ما يترتب علي ذلك الذبول من آثار إيجابية علي دفع عملية التنمية. لمزيد من مقالات د. قدري حفني