يبدو أن القدر قد أبي إلا تمر ذكري كارثة قطار أسيوط الذي راح ضحيته أكثر من50 تلميذا العام الماضي, فضلا عن عشرات المصابين, دون أن تتجدد الأحزان مرة أخري بحادث تصادم جديد بين قطار بضائع, وسيارة نقل وأخري أجرة ميكروباص عند مزلقان دهشور, مخلفا وراءه عشرات القتلي والمصابين. ويبدو أن حادثة دهشور لن تكون الأخيرة, فكم من قطارات اصطدمت ببعضها البعض أثناء توقفها في المحطات.. وكم من مزلقانات وإشارات تعطلت, فتسببت في كوارث بشرية.. وكم من دماء سالت.. وكم ضحايا سقطوا.. وكم من وزراء ورؤساء لهيئة السكك الحديدية قد اقيلوا في كوارث مشابهة, ولم يتحرك ساكنا.. وكم من أشلاء تناثرت.. وكم من قطارات احترقت أو خرجت عن القضبان بسبب الإهمال الجسيم.. ثم تمر الكارثة مرور الكرام.. ويطويها النسيان, حتي تقع كارثة جديدة.. ويسقط قتلي ومصابون جدد!! ويظل السؤال الذي يطرح نفسه مع كل كارثة: إلي متي ستظل مزلقانات الموت تحصد الأرواح؟ الملف الأسود للقطارات مليء بالكوارث- علي حد قول الدكتور عادل عامر رئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصاديةوالخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية, وآخرها كارثة قطار دهشور الذي وقع امس الأول, وأودي بحياة العشرات من القتلي بالاضافة إلي العديد من المصابين.. ويتساءل: إلي متي سيظل نزيف الدماء مستمرا علي القضبان؟. مشيرا إلي أن أسوأ كوارث حوادث القطارات تحدث في قطارات الغلابة من اهالينا الصعايدة, فقد لقي في الماضي القريب بضعة مئات مصرعهم وأصيب آخرون اثر حريق مروع في قطار الصعيد الليلي ولا ننسي حادث القطار التوربيني رقم926 الذي تعرض لحريق في الجرار الخلفي عند مدينة بنها. وحادث تصادم قطاري العياط الشهير.. ثم حريق القطار رقم549 خط طنطا منوف, ثم حادث قطار البدرشين الأخير, الذي أودي بحياة نحو19 مجندا وإصابة ما لا يقل عن107 آخرين بجروح متعددة. كما أن حادث قطار البدرشين وما سبقه بقطار أسيوط والحوادث السابقة سواء في العياط أو قليوب وغيرها, تمثل انتهاكا للحق في الحياة لوجود إهمال وقصور شديدين بمنظومة الأمان والمراقبة لقطارات الهيئة بكاملها, مما يؤكد الحاجة الملحة إلي تطوير منظومة المراقبة والأمان الموجودة بهيئة السكك الحديدية, فضلا عن تدني العقوبات المفروضة علي المسئولين في مثل هذه الحوادث مما يؤدي إلي تفاقم المشكلة بدلا من حلها. ولن يتم إصلاح الخلل الموجود في قطاع السكك الحديدية الا بوضع عقوبات قانونية رادعة للمتسببين في مثل هذه الحوادث والتي تزهق أرواح أبنائنا كل يوم دون رادع. إهمال جسيم ومن الواضح, والكلام ما زال لرئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية- أن الاهمال الجسيم بهيئة السكك الحديدية لن يتوقف عن حد معين فمازلت تنهال علينا اخبار الكوارث التي تأتي جراء الإهمال, و مع أنني لا املك إحصاءات دقيقة حول عدد المزلقانات الخاصة بالسكة الحديد في مصر, والتي هي أحد الأسباب الرئيسية للحوادث الكارثية التي تقع بين يوم وآخر, إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بكل قوة هو: لماذا لا يتم تأمين هذه المزلقانات الكترونيا لتفادي الأخطاء البشرية, فمنذ سنوات عديدة ربما تتعدي العشرين أو الثلاثين أو حتي الأربعين كنا نسمع صوت الجرس الذي يضيء بقرب مرور القطار من أحد المزلقانات مصحوبا بضوء أحمر من جهاز موجود عند المزلقان.. ومصحوبا أيضا بنزول ساتر حديدي من جانبي المزلقان لمنع مرور الركاب والسيارات.. بالإضافة إلي وجود جندي مرور يراقب التزام الجميع بالتوقف حتي مرور القطار بسلام. اما المقابل وككل حادثة يتلقي أهالي الضحايا عدة آلاف من الجنيهات لفقيدهم المقتول خطأ وإهمالا وتقصيرا, ويتم تحويل بعض الموظفين الصغار الي المحكمة ككبش فداء بتهمة القتل الخطأ والإهمال. لكن احدا لم يفسر لنا لماذا تتكرر هذه الحوادث ؟ ولماذا يتكرر الاهمال والخطأ الجسيم ؟ ولماذا لم يتم إصلاح وتطوير خطوط السكك الحديدية التي تعترف الحكومة مع كل كارثة- بأنها تحتاج الي إصلاح وتطوير, خاصة أن مثل هذه الكوارث تخلف آلاف المصابين والقتلي, ويكفي أن نعرف أننا فقدنا407 قتلي والآلاف من المصابين منهم75 قتيلا سنة1995, و50 قتيلا سنة1998, و350 قتيلا سنة2002, و80 قتيلا سنة2006, إلي جانب58 قتيلا سنة2007, و30 قتيلا سنة2009, و52 قتيلا سنة2012, فضلا عن19 قتيلا سنة2013, وأخيرا حادث قطار دهشور الذي أودي بحياة العشرات وإصابة العشرات أيضا دون ذنب اقترفوه. مسارات تطوير المزلقانات وتكشف الإحصاءات كما يقول الدكتور أحمد محمود فرج أستاذ هندسة السكك الحديدية بكلية الهندسة جامعة القاهرة في إحدي دراساته المهمة عند تطوير مزلقانات السكك الحديدية في مصر- إن الحوادث علي مزلقانات السكك الحديدية تمثل اكثر من50% من اجمالي جميع الحوادث التي تقع علي شبكة السكك الحديدية المصرية نظرا لكثافة عددها وما تمثله من نقاط اتصال ضرورية لخدمة المواطنين, وتعتبر المزلقانات نقاط عبور مهمة يحدث عندها في معظم الأحيان اختناقات مرورية وازدحام وتكدس للسيارات علي جهتيها, مما يتطلب تنظيما جيدا ودقيقا, كما تمثل بالنسبة للسكك الحديدية وحركة القطارات مواقع خاصة تستلزم نظم تشغيل وتأمين ورقابة وتحكم غير عادية حتي لا يترتب علي هذه التقاطعات السطحية من شبكة الطرق وخطوط السكك الحديدية أية مخاطر لكلا المرفقين ولذلك فإنه من المطلوب حصر عملية الإدارة والتشغيل الهادئ والناجح للمزلقانات من خلال ثلاثة محاور رئيسية متكاملة تبدأ بالمحور الهندسي, ويمكن أن يتم ذلك عن طريق إعادة تخطيط الطرق للمزلقان وتشكيلها بالشكل الذي يؤدي إلي سهولة وانسيابية المرور من خلال المزلقان, ولقد قام خبراء متخصصون بكلية الهندسة جامعة القاهرة بعمل دليل إرشادي تم من خلاله عمل تصنيف نوعي لعدد22 مخططا أفقيا نمطيا بالإضافة إلي مزلقان مشاة علي شكل حرف( ء), ومحددا بكل نموذج جميع الاعتبارات الهندسية والتشغيلية الواجب اتباعها من حيث أجهزة التحكم واللافتات ومعايير التشغيل الآمن للمزلقان. وتتضمن عناصر التطوير- كما يقول الدكتور أحمد محمود فرج- فصل اتجاهات الحركة للمركبات, ووضع اللافتات التحذيرية والتنظيمية والعلامات الأرضية, وتركيب أجهزة التحكم والبوابات عند المزلقانات( نظم التحكم بربط نظام تشغيل المزلقان بنظام الإشارات القائم علي الخط), وتوفيرالاضاءة عند المزلقانات, وإزالة معوقات الرؤية في منطقة الاقتراب للمزلقان, و تبليط المزلقانات( عن طريق تحسين تباليط المزلقانات من قبل الهيئة لزيادة سرعة السيارات خلال عبور المزلقان وعدم التعرض لنزول البوابات علي السيارات في أثناء غلق المزلقان وهي معظم حوادث جبر البوابات الموجودة), وتحديد مهام وواجبات العاملين في حراسة وتشغيل المزلقانات وبرامج التدريب والتأهيل المناسبة لهم, وكذلك تحديد المسئوليات الفنية والتنظيمية للجهات( هيئة السكك الحديدية/ هيئة الطرق والكباري/ وحدات الادارة المحلية) وكذلك مسئوليات الأفراد( خفير المزلقان/ شرطي المرور/ قائدي المركبات). وعلي المحور الأمني( ويتكفل به رجال شرطة المرور والمحليات-) يجب تفعيل إزالة التعديات علي الطرق والأرصفة بجوار المزلقان وإمكانية رؤية إشارات المزلقان من مسافات كافية لراكبي السيارات, وكذلك تفعيل دور رجال شرطة المرور لإعادة الإنضباط للشارع من خلال تفعيل تطبيق المخالفات المرورية علي المخالفين علي المزلقانات, ولا تقتصر حلول المشكلة علي المحورين الهندسي والأمني السابق ذكرهما, بل تتعداها إلي المحور الإعلامي, والذي يمكن من خلاله تنظيم حملات لتوعية قائدي السيارات لاحترام المزلقان مع التوعية بحجم الغرامة علي مخالفات المزلقانات كنوع من الترهيب. ومن الضروري- كما يقول الدكتور أحمد محمود فرج- وضع معايير للسلامة, من خلال تحديدية مواصفات للسكة الحديد, وإجراء صيانة دورية لها, ومراقبتها, والتفتيش المفاجئ علي المحطات, والسكك, إلي جانب أهمية التوجه التجاري من حيث استغلال الفراغات المتاحة في المحطات, وماحولها, وفي حرم السكك الحديدية, بحيث يمكن تطويرها عبر الاستعانة بمستثمرين وفق مواصفات واشتراطات محددة, تضعها هيئة السكة الحديد في مقابل استفادة المستثمر بحق الانتفاع بها لمدة20 سنة مثلا, ويجب أن يتزامن مع ذلك ضرورة تدريب العنصر البشري, وتخفيض العمالة, وتوفير بيئة العمل المناسبة, ومنح السكك الحديدية صلاحيات لاستغلال الأراضي والمساحات التي تملكها دون الرجوع للمحليات, وإنشاء كيان مؤسسي تكون مسئوليته النهوض بهذا القطاع, ورسم السياسات اللازمة لتشغيله بشكل علمي. حلول عاجلة وبشكل عام, تعد مشكلة الإدارة أبرز مشكلات السكك الحديدية كما يقول الدكتور عبد النبي عبد المطلب الخبير الاقتصادي- فهي لا تسير علي أساس علمي, كما أن خطط التطوير تسير بمعدلات بطيئة, فضلا عن أن الهيئة تحتاج إلي إدارة متخصصة في البحوث, ووضع خطط التطوير سواء لخطوط السكة الحديدية أو للمزلقانات, وورش الصيانة, وإيجاد حلول عملية للمشكلات علي ارض الواقع, مشيرا إلي أن العنصر البشري مسئول عن وقوع معظم حوادث القطارات, مثل السائقين, وعمال البلوكات, والمزلقانات, حيث يفتقر بعضهم إلي الشعور بالمسئولية, فينامون,أو يتناولون الطعام في أثناء الوردية, أو يتركون المزلقانات لفترة ثم يعودون, فضلا عن ضرورة تشخيص الوضع الراهن, وتحديد المشكلات التي تواجه الهيئة. وللحديث عن التطوير, فإنه من الضروري إعداد دراسة علمية لتحديث ورش الصيانة بآلاتها ومعداتها, وكذلك تفعيل وتطوير قطاع السلامة والمخاطر وفقا للأسس العلمية الحديثة في هذا المجال, وتدريب العناصر البشرية والفنية بالهيئة, وتوفير الامكانات المالية اللازمة, ويمكن تمويل الاستثمارات اللازمة لقطاع السكك الحديدية, من خلال مشاركة القطاعين الخاص والعام, و تحفيز القطاع الخاص علي الاستثمار في البنية الأساسية كصيانة القاطرات وخطوط السكك والعربات, ورفع كفاءة التشغيل, وتطوير الأداء, وتشجيع الاستثمارات, لضخ المزيد من الأموال من أجل تحديث هذا القطاع الحيوي, والحد من الكوارث التي تنشأ عنه.