هل يمكن أن ينطوي الخطاب التشكيلي الغربي علي مركبات غيبيه؟ ولو صح جدلا انطواؤه علي مركبات غيبيه, فكيف تراها ظهرت في النتاج الفني المشتق منه؟ وكيف يمكن فهم العلاقة الجدلية من ثم- بين هذا الخطاب, وتراث الفكر الغيبي العربي؟ يبدو أن المراجعة المتأنية لتاريخ الفن, وتأمل بعض الظواهر, التي نتجت في صميم الحراك الفني الغربي, جديران بوضع أيدينا علي إجابات شافية لهذه الأسئلة, وهو ما يستوفي مسوغاته المعرفية والدلالية, حين ندلف إلي عالم إحدي الجماعات الفنية الفرنسية, التي ذاع صيتها في أواخر القرن التاسع عشر, ولعبت دورا مهما في تشكيل السياق العام للفن الفرنسي. تعد جماعة' النابي'LesNabis من بين أهم الجماعات الفنية, التي ساهمت في إذكاء الحراك الحداثي, عبر فترة' ما بعد التأثيرية', طبقا لكثير من مؤرخي الفن. وقد تكونت من مجموعة من المصورين الفرنسيين, نشطوا في' باريس' في تسعينيات القرن التاسع عشر, متأثرين في ذلك بفن' بول جوجان', واستخدامه المعبر للون والأشكال الإيقاعية. وقد صك اللقب' نابي' بواسطة الشاعر' هنري كازالي'(19091840 م) من الكلمة العبرية' نافي'Navi التي تعني: النبي. وبذلك يتضح أن مؤسسي المجموعة, قد نظروا لأنفسهم باعتبارهم( أنبياء) الفن لتلك الفترة. كان' بول سيروزييه'(19271863 م), مع' موريس دنيس'(19431870 م) هما منظرا الجماعة, وكان كل من الصديقين المصورين والحفارين,' بيير بونار'(1867-1947 م) و'إدوارد فويار'(1868-1940 م) من ضمن باقي الأعضاء. وقد شاركت جماعة' النابي' مذهب الرمزية في كثير من أفكاره الأساسية. وشمل نشاط جماعة' النابي' العروض المسرحية, وتصميم الملصقات, والزجاج المعشق, والرسوم التوضيحية للكتب, جنبا إلي جنب مع التصوير. وكان أول معرض للجماعة في عام1892 م. وحوالي عام1899 م, تفرق شمل أعضاء' النابي'. وقد ارتبط أعضاء' النابي' بعلاقات متناقضة, مع عدد من الجمعيات الدينية والطقوسية ذات التوجه الغيبي والباطني, التي انتشرت وراجت في أوساط النخب الفرنسية آنذاك, واختلطت فيها الممارسات السحرية بالتصوف, فضلا عن الإيغال في الرمزية الروحية. فمن جهة, كان توجه' النابي' نحو الغيبيات توجها جماليا وفنيا صرفا, ومن جهة أخري, تشابهت عدة سمات طقسية وغيبية لعدد من الجمعيات الغيبية الفرنسية, مع مثيلات لها, ظهرت في الممارسات الحياتية لأعضاء' النابي' ومظهرهم الشخصي, وبخاصة فيما يتعلق بالملابس والأدوات والطقوس; وهو ما يتضح من خلال صورة شخصية( بورتريه) ل'بول رانسون'(19091864 م), المصور والمتصوف والمفكر الغيبي وعضو جماعة النابي. ففي صورة' بول رانسون', حرص صديقه الفنان' بول سيروزييه' الذي رسمها له- علي تأكيد الصفة الطقسية لجماعة' النابي', وفي نفس الوقت بيان مدي تأثير الفكر السحري والغيبي علي فكر صديقه' رانسون'; من خلال حشده لعدد من الأدوات والرموز الطقسية التي تؤكد هذه الصفة, وهو أمر له ما يبرره في التركيبة النفسية والفكرية للفنان; إذ كان' سيروزييه' من اللصيقين بالتراث الأفلاطوني الجديد, وكان مهتما بممارسة السحر, كما كان هو من أطلق علي الجماعة اسم' النابي', وكان بالإضافة إلي' دنيس' و'رانسون' يتولي مسؤولية التنظير للجماعة وإقامة الطقوس. وكان هو و'رانسون' من المهتمين بالفكر الباطني, وشأن كثير من شعراء وفناني هذه الحقبة; فقد حاولوا إيجاد أرضية مشتركة بين أديان الشرق والغرب.. وفي عام1890 م رسم' سيروزييه' صورة' رانسون' في زي' النابي' الطقسي, مطالعا في كتاب مقدس وممسكا بصولجان طقسي. وجدير بالملاحظة هنا أن صياغة الحلية الزخرفية, التي ينتهي بها رأس الصولجان الممسك به' رانسون' في هذه اللوحة, يتطابق مع صفات طائر' العنقاء', المتجذر في أدبيات الثقافة الإسلامية الوسيطة, وبخاصة في تراث العرفان الصوفي, الذي راج في دول آسيا الوسطي, خلال ذروة مد الحضور العربي بها. وقد لعب هذا الطائر الأسطوري الذي ارتبط بتداعيات( المطلق) و(المستحيل) دورا رمزيا خطيرا, في عدد كبير من كلاسيكيات الشعر العرفاني الإسلامي, وتحديدا لدي أساطين شعراء التصوف الفرس; وهو ما يتجلي علي نحو جلي في ديوان' منطق الطير', للصوفي البديع' فريد الدين العطار النيسابوري', ومعادلاته البصرية لدي فناني المنمنمات والمخطوطات, الذين عالجوا الديوان برسوم شارحة ومصاحبة في نسخ عدة, فضلا عمن استلهموه في رسوم مستقلة. وبإعادة تأمل اللوحة السابقة, يتبادر للأذهان, علي الفور, تساؤل يتعلق بمرجعية الجلباب العربي المزخرف صدره, الذي يرتديه' رانسون', وبالمسوغ الذي يبرر اتخاذه زيا طقسيا, لجماعة فنية, تستبطن الأسرار والغيبيات الأوربية في القرن التاسع عشر. إن التشابهات لتستعصي علي الخضوع للصدفة, في ظاهرة التماثل بين رموز هذه الجماعة الفنية/ الغيبية, ورموز جماعات التصوف العربية, ولاسيما الجماعة الأشهر في اعتماد الجلباب كلباس, والمعروفة بالطريقة' القادرية' أو' الجيلانية'; فهناك تواز مثير ل'النابي' مع المدرسة العربية' للنورانيين', الذين تبعوا' عبد القادر الجيلاني'(488-578 هجرية), والذي من المحتمل أن طريقته البغدادية في التصوف, أثرت علي الصوفية الغربية, لو اعتبرنا أن كل خيمياء العصور الوسطي قد مرت إلي أوربا عبر العرب. نعتقد أنه يجب علينا الآن أن نتريث كثيرا, قبل القطع بانفراد الخطاب الغربي بالعقلانية الصرفة, في مقابل تكريسنا لصورة الذات العربية السادرة في مقاربة الغيب واستنطاق الخرافة. نعتقد كذلك أن وقائع كالسابقة, من شأنها أن تورثنا تريثا مثيلا, قبل المغامرة بإعادة ترديد المقولة المستهلكة, التي نؤكد من خلالها انفراد الفنون العربية من حيث اتكائها علي موروثها الشرقي- بالتعويل علي الروحاني والغيبي والمتسامي, إذ وضح أن فعل المثاقفة في هذا الجانب, بات من التعقيد بحيث لا يمكن القطع فيه بمسلمات يقينية, دون مخاطرة بمجافاة مقتضيات المنهجية العلمية. لمزيد من مقالات د . ياسر منجى