منذ وجد الإنسان علي الأرض والألم رفيقه, وتحت كلمة الألم يمكن أن نضع الألم النفسي( الخوف التوتر الإكتئاب... إلخ) والألم الجسدي( الأمراض بكل أنواعها) والألم الروحي بفقدان الرجاء في الله أو في الروح التي له علاقة بها. وفي مواجهة الألم الذي يجعل الحياة قاسية ومنهكة للبشر كانت هناك ثلاثة مواقف. الموقف الأول عدم أو ضعف القدرة علي المواجهة عند الانسان وهنا يأتي إختيارالإنسحاب الي الداخل( داخل الإنسان) من الحياة الواقعية والعيش في فضاء إفتراضي يخلقه الإنسان لذاته يصل به أحيانا إلي المرض النفسي( الجنون) مرورا بتعاطي المخدرات والإدمان.. إلخ ويصل بأخرين إلي التسامي علي الحياة ورفض كل متعها وآلامها في نفس الوقت, فلا صراع علي سلطة ولا تسابق علي كسب المال, ولا لذة مهما كانت, وهذا نراه في دعوات التصوف الإسلامية والرهبنة المسيحية والنيرفانا البوذية حيث أعلي درجات السمو الروحي. أما الموقف الثاني فهو المواجهة الواقعية للحياة بالتعرف عليها كما هي وليس كما نتمناها وهنا ينتقل البشر من مرحلة الطفولة الإنسانية حيث تحال كل الظواهر من كوارث طبيعية أو إنسانية أو أمراض إلي قوي خفية وكل نجاح إلي آلهة تعينه وتسعده, إلي مرحلة النضج حيث يرجع الظواهر إلي أسبابها الحقيقية.وهنا استطاع أن يتقدم ويتحضر, وهذه الجدية تجعل الإنسان مهموما بكل معرفة جديدة, قلقا علي المستقبل لعدم وصوله إلي علاج لكل مشاكله أو أمراضه وهذه النوعية من البشر قادرة علي الإنجاز والفعل والقيادة, لذلك تجد أمثال هؤلاء ينجزون الكثير لكنهم يموتون سريعا وهناك حكمة قديمة تقول' مع كثرة العلم كثرة الغم ومن يزيد علما يزيد حزنا, وذلك لأنه يقدر تماما مصاعب وآلام ومعوقات التقدم والحركة للأمام. أما الموقف الثالث من الحياة فهو السخرية, والساخرون يعيشون حياتهم وكأنهم يشاهدون مسرحية هزلية وفي كل موقف مهما كان جادا يكتشفون فيه ما هو مثير للضحك وهذا لا يعني أنهم مستهترون أو لا يأخذون الحياة بجادية أو ليس لديهم روحانية لكن هو موقف عبر عنه يوسف وهبي بالقول' ما الدنيا إلا مرسح( مسرح) كبير, إنه موقف فلسفي بكل المقاييس فالفيلسوف يسخر من الحياة كما الموت ومن الحزن كما الفرح ومن البشر كما الحيوانات ومن المتدينين كما الملحدين ومن السياسيين والحكام كما المحكومين والبلهاء, فهذه السخرية تجعل الساخرين يرون الناس والأمور علي حقيقتها, إنهم يعلمون أن السخرية( الكاريكاتير) هي فن المبالغة لذلك لا تكون السخرية تعبيرا عن واقع القضية لكنها تلفت النظر إلي أن هناك خطأ ما في القضية فتعطيه أكبرمن حجمه بشكل ساخر فيتداركه الناس. وللتعبير عن هذه الفكرة نذكر موقفين من التاريخ, أولهما من تاريخ فلسطين عام3000 ق. م عندما كانت عدة قبائل تتصارع علي حكم البلاد, وبعد حرب إبادة بين قبيلتين إنتصرت إحداهما وحكمت فلسطين فوقف شاب من القبيلة التي هزمت علي رأس جبل خارج المدينة ورفع صوته فتجمع حوله الناس فقال لهم: إسمعوا, مرة ذهبت الأشجار لتختار ملكا عليها فقالت للزيتونة أملكي علينا فقالت الزيتونة أأترك دهني الذي يكرمون بي الله والناس وأذهب لكي أملك علي الأشجار؟ ثم قالت الأشجار للتينة تعالي أنت وأملكي علينا فقالت التينة أأترك حلاوتي و ثمري الطيب وأذهب لكي أملك علي الأشجار؟, وأخيرا قالت جميع الأشجار للعوسج( شجر الشوك) تعال أنت وأملك علينا, فقال العوسج للأشجار إن كنتم بالحق تختاروني ملكا فتعالوا واحتموا تحت ظلي وإلا فتخرج نار من العوسج وتأكل أرز لبنان. نري هنا صورة سياسية كاريكاتورية توضح أن الذي يحكم البلاد ليس هو الأصلح لكن الأكثر عنفا وقسوة وأن الحكماء والذين ينفعون الناس يرفضون الحكم والدم لأنهم يشعرون أنهم يقدمون للبشرية ما يشبعهم ويريحهم. كذلك نري صورة ساخرة أخري صور بها السيد المسيح اليهود الذين رفضوا رسالته كما رفضوا رسالة يوحنا المعمدان( النبي يحيي بن زكريا) من قبله رغم اختلافهما في طريقة التعبير عن الرسالة الإلهية التي يحملونها للبشرية بسبب اختلاف شخصيتهما ليس إلا, فوجه حديثه اليهم قائلا: جاءكم يوحنا المعمدان متقشفا يأكل الجراد و يلبس وبر الجمل فلم تقبلوه ثم جاءكم ابن الإنسان( السيد المسيح) يأكل ويشرب ويلبس فرفضوه فماذا أقول لكم إنكم تشبهون أولادا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضا ويقولون' طبلنا لكم فلم ترقصوا, نحنا لكم فلم تبكوا'. وهذه الصورة يأخذها السيد المسيح من لعبة للأطفال منتشرة في شوارع فلسطين من ألفي عام ومازالت منتشرة في مصر حتي اليوم وهي عندما يتجمع الأطفال للعب معا وينقسمون إلي فريقين لكي يلعبوا( عروسة وعريس) أو' جنازة ميت' وإذا بفريق يتعنت ويرفض اللعب نهائيا بعد بداية اللعبة, وهنا يسخر السيد المسيح من اليهود الذين لا يعجبهم العجب. والسؤال الآن: ما هو الموقف الصحيح من البرنامج الساخر' البرنامج'؟! هناك من يستاء من سخريته من القوات المسلحة وأخر يستاء من سخريته من الإخوان وثالث يستاء من الإيحاءات الجنسية, وقرار منع البرنامج سوف ينقذه من النقد الموضوعي العلمي وسوف يحول مقدمه الي بطل وشهيد لحرية الإبداع وسوف يدافع عنه كثيرون بغض النظر عن القيمة الحقيقية للبرنامج وهنا يكون مقدم البرنامج هو الرابح في كل الحالات والحل الحقيقي لمشكلة مثل هذه أن يترك الحكم عليه للجمهور حتي يتدرب الجمهور علي اتخاذ القرار دون وصاية من أحد. ألا يوجد في بلادنا ما يسمي بثقافة الاختيار لدي الأفراد؟, أو ثقافة' الريموت كنترول' كما يطلق عليها في الغرب؟ إن كان الشعب لا يريده فليسقطه بالريموت كنترول في ملايين البيوت والعكس صحيح وفي حالة اسقاطه سيتم ذلك دون ضجيج أو دعاية واذا إستمر فسوف يستمر بحجمه الحقيقي دون زيادة او نقصان وعندئذ سيربح الجميع. لمزيد من مقالات القس .د. إكرام لمعى