هناك كتب تميت القلب وهناك كتب تحيي القلب وتنهض بالعقل وترسم خارطة أمل للمستقبل بالحب والسلام معا، وأزعم أن كتاب المفكر الكبير الراحل خالد محمد خالد «محمد والمسيح معا علي الطريق» يعد من تلك النوعية التي تحيي القلوب التي ماتت والعقول التي نامت في حضن التطرف لتنجب لنا مئات الحرائق الطائفية التي نشهدها أسبوعيا وكأننا بإزاء مسلسل درامي، هل يعد الكتاب سيرة ذاتية لرسولين كريمين في الدعوة إلي الله وهداية البشر أم هو كتاب أدبي؟ فألمتأمل للكتاب يندهش من قدرة المؤلف علي رصد مئات المواقف الإنسانية المشتركة والمتماثلة بين الرسولين الكريمين ووضعها بجوار البعض وهنا تتجلي حنكة الكاتب في وضع مونتاج متواز لسيرة ومسيرة الرسولين الكريمين تجاه الإنسان والحياة معا، لذلك يتابع القارئ مستمتعا ومتطهرا بكل ما يطالعه فالمواقف معبرة والمعاني متفجرة والدلالات تتهادي يمينا ويسارا ناهيك عن أسلوب الحكي وبراعته، فخالد محمد خالد من الحكائيين للنظام وأزعم أن عشرات الصفحات لن تكفي لتحليل هذا الكتاب وبيان قيمته إلا إذا دخلنا في موضوع الكتاب حسب المساحة المتاحة وهذا الكتاب عبارة عن مقدمة وستة فصول، حيث ينفي المؤلف في مقدمته أن يكون الكتاب تأريخا لمحمد أو المسيح وإنما تبيان لموقفهما من الإنسان ومن الحياة أو بتعبير أكثر سدادا موقفهما مع الحياة ومع الإنسان، يأتي الفصل الأول وتزداد لدينا وتتسع من عنوان الفصل الأول وهو «سقراط يقرع إلا مراسل» إذ ما علاقة سقراط بالحديث عن محمد والمسيح؟ ولا يتركنا المؤلف فريسة للحيرة فيقرر بأن العلاقة جد وثيقة فسقراط كان يؤمن «بالغيب وبالله وبالحياة بعد الموت وبوحي يتلقاه المصطفون والأخبار عن الروح الأكبر المشع في هذه الأكوان العظيمة» ولا يفوت المؤلف ذكر وجه الاختلاف بين إنسان اثينا «سقراط» وإنسان مكة وأورشليم فالأول يرتدي رداء الفلسفة والثاني والثالث يرتديان رداء الرسالة. ويأتي الفصل الثاني من الكتاب والمعنون ل «الهداية ترسل سفنها» ليستكمل فيه المؤلف رصد كل الذين بشروا بالتوحيد والحق والعدل والمساواة من البشر فلم يكن وحده سقراط من يقرع الأجراس ففي أقطار شتي من الأرض كانت الهداية ترسل سفنها، ففي مصر القديمة كان الإله «إخناتون» يعلن أن الإله واحد ويقاوم تعدد الآلهة وعبادة الأوثان ويناجي الهه آتون. وها هو اشعياء يصرخ «ويل للذين يقضون قضية الباطل وللكهنة الذين يسجلون زورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حقا شعبيا لتكون الأرامل غنيمتهم وينهبوا الأيتام» ويعد ذلك التمهيد الدرامي البليغ مطالبًا قراءة أو مشاهديه بالاقتراب في خشوع وتقوي فاليار الكبير يفتح ليخرج إلي البشر جميعا «إخوان حميدان» ابن الإنسان ورحمة الله للعالمين أما عيسي فسيلخص لنا كل فلسفات المحبة وديانتها ورؤاها، وأما محمد فسينفض عن الإنسان آخر أغلال التبعية وهكذا تتلقي البشرية آخر دروس إعدادها وتتسلم وثيقة رشدها «تجربة الوحي في قلبها ونور العاقل في رأسها» لمن يفهم ويعي ويتأمل. في حجر أم بارة بدأ المسيح كما بدأ محمد أولي ساعات الحياة، ففي شباب ورع طالع كل منهما رؤي مستقبله واستجلي غوامض سبحانه وكما تلقي المسيح بشراه الحافزة من رجل صالح حين قال «يجيء من هو أقوي مني» كذلك تلقي محمد بشراه الحافزة من رجل صالح حين قال له وهو مصغٍ «هذا الناموس الذي أنزل الله علي موسي». هكذا يبدأ المؤلف فصله الثالث والمعنون ب «معا من أجل الرب» بصور متماثلة ولاهثة وحريق الإيقاع لرحلة الرسولين.. ففي قري ظالمة صار كل منهما عفا تقيا وأمام مكائد اليهودية المتآمرة وقف الرسولان يتحديان رجسها ويكايدان بأسها وأريد للمسيح أن تنتهي حياته علي يد خراف إسرائيل الضالة وأريد للرسول أن تنتهي حياته أيضا علي يد اليهود إذ دست امرأة السم له في الطعام، ويمضي المؤلف في توضيح تاريخي للقارئ كيف كانت فلسطين قبل أن يظهر في افقها المسيح وكذلك كيف كانت مكة حينما ظهرت في أفقها الرسول وسمع هاتفا يردد «يا أيها المدثر قم فانذر» نفس الصوت يرن الآن في روع المسيح «انت ابني الحبيب الذي به سررت للرب إلهك تسجد واياه وحده تعبد» ويمضي المؤلف في هذا الفصل بين صور متماثلة لرسولين كريمين وبين استعراض تاريخي لإرهاصات ما قبل ظهورهما. فيشرح دور يوحنا المعمدان في فلسطين ويوضح دور عمرو بن زيدين ثقيل ليهل علينا الفصل الرابع المعنون ب«معًا من أجل الإنسان» الإنسان هذا الاسم ذو الرنين الصادق هذا الكائن كيف تراءي لمحمد والمسيح؟ هكذا يتساءل المؤلف في بداية فصله، ويجيب من خلال صوره المتتابعة والمتماثلة للرسولين، فالمسيح ينعت نفسه بأنه ابن الإنسان فيقول «إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك نفس الناس بل ليخلص» و«ها نحن صاعدون إلي أورشليم وابن الإنسان يسلم إلي رءوس الكهنة» و«من قال كلمة علي ابن الإنسان يغفر له». وأيضا يتحدث القرآن الكريم المنزل علي محمد عن الإنسان فيعطيه صفته الحقة «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» و«خلق الإنسان هلوعا» «فإذا مس الإنسان ضر دعانا» من هذا التكرار الذي يوحي بالاهتمام يؤكد المؤلف أن موضوع الرسالة هو الإنسان ولأنهما بعثا من أجل الإنسان كانا إنسانين وكانا رجلين من البشر اثنان من عباد الله ومن أولاد آدم يأكلان الطعام ويمشيان في الأسواق.. ويوضح المؤلف أيضا كيف تعالت ترنيمات الملائكة حينما أراد الله أن يصطفي لنفسه خلقا في الأرض فترك الملائكة ورمق الإنسان بعين حانية وأشار نحوه في حب غامر «هذا هو الخليفة» إذن فالإنسانية هي الجنسية المشرقة التي يحملها محمد والمسيح فعيسي يقول أنا ابن الإنسان والرسول يقول أنا بشر مثلكم، وينتقل المؤلف ببساطة من نبض الإنسان إلي تدفق الحياة تحت عنوان «معا من أجل الحياة». وفي فصله السادس المعنون ب «الآن ياراياش أم المسيح» يضعنا المؤلف أمام سؤال مصيري وهو إلي أي الفريقين ننتمي في الحياة إلي ياراياش أم إلي المسيح؟ يعود بنا المؤلف فلاش باك إلي واقعة صلب المسيح وكيف رفض اليهود اقتراح ببلاطش بأن يطلق سراح المسيح كما جرت العادة في كل عيد ولكنهم زادوا تصميما في أن يصلب المسيح قائلين «ياراياش». ياراياش أما المسيح فاصلبه وياراياش هذا كان لصا وقاتلا، والسؤال الذي يتبادر إلي ذهن القارئ هو لماذا رفض اليهود أن يختاروا المسيح؟ يجيب المؤلف قائلا لأنه جماع فضائل لا يطيقونها ومشرق عصر عظيم لا يسمح لنقائصهم بالازدهار.. ونعود إلي السؤال المصيري وهو ماذا ستختار البشرية اليوم ياراياش أم المسيح؟ والحق أن محمد قد سبق إلي الاختيار السديد واختار المسيح منذ ألف وأربعمائة عام وأعلن أن المسيح سيعود وسيملأ الأرض نورا وسلاما وعدلا هذا هو يقول: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم مقسطا» لكن ماذا نفهم من عودة المسيح والجواب يسير إذا عرفنا ماذا كان المسيح «إن المسيح هو دعوته هو المثل الأعلي الذي تركه وأعطاه هو الحب الذي لا يعرف الكراهية هو السلام الذي لا يعرف القلق هو الخلاص الذي لا يعرف الهلكة وعندما تتحقق هذه كلها علي الأرض تتحقق في نفس الوقت عودة المسيح، نحن مع رسولنا الكريم سنظل نصيح المسيح لاياراياش الحق لا الباطل الحب لا الكراهية السلام لا الحرب الحياة لا الفناء».