منذ منتصف الثلاثنيات من القرن الماضي أخذ معظم الأدباء المصريين يتجهون بقوة إلي الكتابة عن الاسلام, واتسع هذا الاتجاه وامتد إلي أوائل الستينيات وكان هذا النشاط تيارا فكريا وظاهرة تلفت الأنظار حتي أن ناقدا أدبيا مثل الدكتورمحمد مندور يضيق ذرعا بإمعان الكتاب في هذا التوجه فيتساءل مستنكرا:' مابال معظم كتابنا قد انتهوا بالكتابة عن' محمد'؟ أهو إيمان من يشعرباقترابه من اليوم الأخر؟ ذلك ما نرجو. ولكن ثمة أمر لا شك فيه, هو أننا قد وصلنا لدرجة التزمت! لم ينفذ الدكتور مندور إلي المقاصد البعيدة التي كانت وراء اتجاه هذا الجيل من الأدباء نحو الإسلام وإن كان قد سبقهم مفكرون الي عرض السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين عرضا قيما وإلي بيان مهمة الاسلام في العالم من أمثال الأساتذة محمد فريد وجدي ومحمد الخضري وعبد الوهاب النجار, ولكن مؤلفات هؤلاء الأعلام لم تمثل تيارا قويا كالذي مثلته كتابات الأدباء الذين كانوا منصرفين قبل ذلك إلي الكتابة الادبية والسياسية وإنما كانت جهود أولئك السابقين أشبه بأوائل الغيث الذي يبدأ قطرات قبل أن ينهمر. ومما شجع كتابنا الأدباءأن عددا من علماء الدين الأزهريين المعتبرين قد ساروا معهم في هذا الطريق التثقيفي الاسلامي من أمثال الإمام محمود شلتوت والعلامة الدكتور محمد عبدالله دراز ويكفينا أن نعلم أن الإمام المراغي هو الذي كتب مقدمة كتاب' حياة محمد' للدكتور محمد حسين هيكل, وقد كان توافد الأدباء إلي هذا الاتجاه بأخرة من أعمارهم أمرأ متوافقا مع النضج الفكري والوجداني الذي يؤهلهم للتجاوب النفسي مع عظماء الإسلام الأولين. أما البواعث التي أغرت أقلامهم بالمضي في هذا الطريق فهي عديدة منها مقاومة الأفكار الإلحادية ومنها مقاومة حركة التبشير التي عمدت الي تشويه الاسلام وشجعتها القوي الاستعمارية لتشكيك المسلمين في عقيدتهم عن طريق نشر إشاعة تقول بأن عقيدة الاسلام تدعو الي القدرية والتواكل وأنها هي السبب في تخلف المسلمين. وكان هناك باعث أخر له أهميته هو قطع الطريق علي دعوات التطرف الديني التي بزغت قرونها الشيطانية بعد إلغاء الخلافة العثمانية, فأسرع أدباؤنا بتقديم الصورة السمحة للاسلام ليقضوا علي الصورة المتطرفة التي تعرضها تلك الدعوات. فليس هناك تزمت ولا تكلف ذهني للبحث عن الشهرة, بل هناك رسالة أمينة مضادة للتزمت وكأنما اتفقوا عليها تلقائيا من غير تدبير, وعلي الرغم من المعارك الفكرية والأدبية التي كانت تشتعل بينهم نراهم قد أجمعوا علي إظهار سماحة الاسلام واظهار توافقه مع الحرية الديمقراطية يعينهم علي ذلك سعة اطلاعهم علي ثقافة العصر وأدابه واتجاهاته الفكرية وكان بعضهم يؤيد بعضا في مهمة التثقيف والتنوير, فقد دافع العقاد في البرلمان عن حق طه حسين في نشر كتابه' في الشعر الجاهلي' رغم معارضته الفكرية لما احتواه الكتاب من آراء, لأن الرأي لا يرد الا بالرأي والدليل لا يدحض الا بالدليل. ويتبين لنا هذا التناغم حين نري أن لكل كاتب من هؤلاء الكتاب منهجه في عرض الاسلام الذي لا تغني عنه مناهج رفقائه, وكأننا نستمع الي سيمفونية واحدة متعددة المعازف والأصوات, فالدكتور هيكل يربط الحوادث بعضها ببعض في تسلسل زمني محكم الحلقات ويبين في أثناء ذلك الحكم والأغراض والفضائل والأستاذ العقاد يتبع المنهج النفسي الذي يعني برسم صور الشخصيات التاريخية ويستعين بقوة المنطق والتحليل في رد الشبهات, والدكتو طه حسين يأخذ بمنهج الشك التاريخي حينا والخيال الروائي حينا أخر, والدكتور أحمد أمين يعرض أطوار الحياة العقلية في سلسلته الفريدة عن الاسلام, والحكيم يعرض تعادلية الاسلام مستعينا بقدرته الفنية. وهذه الكتابات وغيرها كانت مواصلة للطريق الذي بدأ خطواته الإمام محمدعبده في أواخر القرن التاسع عشر وهو إعادة عرضالإسلام عرضا جديدا يلائم روح العصر وتطورالحياة الإنسانية مقررا مبادئ حرية العقل في التفكير, وحرية الإنسان المفكر في التعبير, وانه لايحق لأي سلطة أن تحجرعلي أي فيلسوف أو أديب أن يناقش ما شاء, وأن الإسلام حطم الدولة الدينية الكهنوتية, وأقام الدولة المدنية الدستورية, فمن رحم هذا التواشج رأي العقاد مثلا أن التفكير فريضة اسلامية وأن الديمقراطية بمعناها الإنساني الكامل إنما تتحقق في الاسلام. لماذا توقفت هذه المسيرة التجديدية؟ ومن الذي عوق مسيرتهاعلي الرغم أنها من ناحية الابداع والبحث الفكري لم تتوقف؟ فقد جاء بعد هذا الجيل الرائد كتاب ومفكرون قدموا أعمالا متميزة عن الاسلام ولا تزال مصر الولود تنجب من أمثالهم حتي اليوم, منهم الباحثون في الجامعات ومنهم المستقلون بجهودهم الذاتية خارجها, ولكن التعويق جاء من عوامل خارجة عن إرادة المؤلفين فكثير من أبحاث الجامعيين القيمة حبيسة رفوف المكتبات الجامعية, والمنشور من هذه المؤلفات عامة لا يحظي بالرواج الذي يستحقه, وقد تعرضت في مراحل معينة الي التعتيم, ومن المؤسف أن الدعوات الدينية المتطرفة كانت أقوي جذبا للناشئة والبسطاء لأن هؤلاء يعتمدون في تكوين قناعاتهم علي ما تسمعه أذانهم لا علي ما يقرأون أو يتعبون في تحصيله بحكم قانون' أقل الجهد' الذي يلائم العقل الكسول, وقادة المتطرفين يبذلون الأموال وينشئون دور النشر لترويج كتب معينة تردنا إلي الوراء وتحارب الثقافة المستنيرة وتشوه صورة الكتاب المجددين ويحملون أتباعهم حملا علي قراءة هذه الكتب والاكتفاء بها, ولا أعفي أنظمة الحكم المستبدة التي تضيق ذرعا بطبيعتها بالنقد وحرية التفكير والتعبير من تحمل الوزر الأكبر فقد تسببت الخطط العاجزة في قلة الدخول وضعف التعليم والبعد عن التفكير العلمي والنقدي, فلم يجدوا سوي شيوخ التطرف يتلقون منهم غذاء الوجدان ولم يعلموا أنه, في الحقيقة, غذاء مسموم. H أستاذ الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية بالمنصورة لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل