منذ ثورة25 يناير, وبدرجة أقوي منذ ثورة30 يونيو, مرت العلاقات المصرية الأمريكية بمرحلة من الضبابية وعدم الوضوح والتردد. ويبدو أنه لدي الطرف الأمريكي كانت هناك مفاجأة في الحالتين, وهو ما استلزم بعض الوقت كي تدرك الإدارة الأمريكية حقيقة ما جري علي أرض مصر, أو هكذا تبدو الصورة. ولقد كان الموقف الأمريكي من ثورة30 يونيو, وفي الأيام الأولي التالية لذلك الحدث العظيم, كان الموقف الأمريكي مما حدث سلبيا, وعزي ذلك إلي بطء أو عدم سلامة في الإدراك الأمريكي لما جري. وتم التعبير عن ذلك بتصريحات ومواقف سلبية عديدة صدرت عن مسئولين بالإدارة الأمريكية, بما فيهم الرئيس' باراك أوباما', وكذلك من قيادين بالكونجرس مثل السيناتور' جون ماكين'. وذهب آخرون إلي القول بأن ذلك الموقف الأمريكي السلبي من ثورة يونيو كان تعبيرا عن رغبة الإدارة الأمريكية في استمرار حكم الإخوان المسلمين و'مرسي', لما يمثله ذلك من نمو للعلاقة بين الطرفين في السنوات الأخيرة, وربما منذ ما قبل ثورة يناير, أو لما يعكسه من خط استراتيجي جديد للإدارة الأمريكية تبغي من ورائه تعميق وإطالة حالة عدم الاستقرار, وبما قد يؤدي إلي زلزلة المنطقة العربية في إطار ما يعرف بالشرق الأوسط الجديد. ورغم إعلان الإدارة الأمريكية في يوليو الماضي عن تعليق شحنة من4 طائراتF-16, بما يعنيه ذلك من إيقاف للمساعدات العسكرية الأمريكية, وما كان يمثله ذلك من دلالة واضحة علي مستقبل العلاقات المصرية الأمريكية, فإن طرفي العلاقة- مصر وأمريكا- حاولا تخفيف أثر ذلك القرار بالإعلان عن الإدراك المتبادل لأهمية كل طرف للآخر, وتغذي ذلك الإدراك غير الصحيح بتصريحات الرئيس الأمريكي' أوباما' في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي, وهي التصريحات التي تضمنت اعترافا بأن الرئيس المعزول' محمد مرسي' قد فشل في إدارة الدولة المصرية علي طريق الديمقراطية, وهي التصريحات التي وظفت, ربما بدرجات متفاوتة, من جانب الطرفين للتأكيد علي الأهمية المتبادلة للعلاقات الثنائية فيما بينهما. والغريب أنه بعد أيام من حديث' أوباما' أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة, والذي ترك أثرا إيجابيا لدي البعض, صدر قرار تجميد أو تعليق مساعدات عسكرية أمريكية إلي مصر تتضمن طائرات إف-16, وطائرات أباتشي المروحية القتالية, ودبابات إم-1, وصواريخ هاربون, وتعليق تسليم المساعدات النقدية, مع عدم تعليق المساعدات المخصصة لحماية الحدود المصرية ومحاربة الإرهاب رغم أن أباتشي طائرات تدخل ضمن نطاق أسلحة حماية الحدود, وضمان الأمن في سيناء, الأمر الذي نسف كل الأوهام التي استشفها البعض بعد خطاب' أوباما' أمام الأممالمتحدة. وفي كلمات ألقيتها في ثلاث ندوات علمية مهمة منذ13 يوليو وحتي8 أكتوبر, وفي العديد من الأحاديث الإعلامية توجهت إلي الدولة المصرية بدعوة جدية للتفكير في الأمر بشكل إيجابي يقوم علي الفعل والمبادرة, وعدم التردد أو الارتكان إلي منهج رد الفعل في التعامل مع الولاياتالمتحدة, وهو منهج ساد في معظم فترة ما بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. لقد كان الأجدي لمصر كدولة مركزية مؤثرة في المنطقتين العربية والشرق أوسطية, أن تبادر, وفي ظل العديد من المؤشرات الدالة علي توجه الولاياتالمتحدة إلي تبني سياسات ومواقف وقرارات تمثل ضغطا غير مقبول علي مصر, كان يجب علي مصر أن تأخذ المبادرة, وتعلن عدم حاجتها إلي المعونات الأمريكية. فالمعونة الاقتصادية صغيرة( أقل من50 مليون دولار في العام), ولاتستحق الذكر. والمعونة العسكرية مهمة نعم, ولكنها لا يجب أن تستخدم كأداة ضغط مباشر أو غير مباشر, فإذا كانت الولاياتالمتحدة هي أقوي دولة في العالم, فإن مصر هي أهم قوة إقليمية عربيا وشرق أوسطيا. وإذا كانت المعونات العسكرية الأمريكية تمثل مصلحة مهمة لمصر, فإن التحالف أو التعاون الوثيق مع مصر يمثل مصلحة استراتيجية ليس لها بديل للولايات المتحدةالأمريكية كقوة عظمي. وإذا كانت المساعدات العسكرية والعلاقات الاستراتيجية مع القوة الأعظم الوحيدة ذات أهمية استثنائية لدولة كمصر, فإن إطلالة مصر علي البحرين المتوسط والأحمر, ووجود قناة السويس أعظم ممر ملاحي مدنيا وعسكريا في العالم, ونفوذ مصر الإقليمي العظيم ثقافيا, وبشريا, وجغرافيا يمثل رصيدا لا بديل له في المنطقة, بل وربما علي مستوي العالم. والأهم من ذلك, أن النظام الدولي في طريقه للتحول إلي نظام عالمي بعيدا عن الأحادية القطبية, حيث كانت الولاياتالمتحدة أكبر قوة دولية أو عالمية اقتصاديا, وثقافيا, وعسكريا, وعلميا, وتكنولوجيا لنحو العقدين بعد الانهيار السوفيتي. وكذلك, فإن أوروبا ظلت لأكثر من قرنين من الزمن مركز النظام الدولي, سواء في علاقات الكبار للسيطرة علي القارة الأوربية, أو في علاقات اثنين منهم( بريطانيا العظمي وفرنسا) الساعية إلي التنافس علي السيطرة الاستعمارية في العالم خارج أوروبا( في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بل وأمريكا الشمالية), وذاك أمر أو مجال أخر مهم لحركة النظام الدولي, حيث التغير في هيكل النظام الدولي بدخول روسياوالصين إلي حلبة الصراع الدولي, وانتهاجهما لسياسات تختلف بشكل ملحوظ, وإن كان ذلك قد تم بطريقة تدريجية, عن تلك التي كانت تتبعها في مرحلة الأحادية القطبية في بدايات القرن الواحد والعشرين, أو في مرحلة التعددية القطبية السابقة علي الحرب العالمية الثانية. إن روسيا قد استعادت الجزء الأكبر من نفوذها السابق علي مرحلة الأحادية القطبية, حتي وإن اختلفت الأدوات والآليات المستخدمة لتحقيق ذلك الهدف. وليس أوضح من حالة الأزمة أو الحرب الأهلية السورية, حيث اختلف السلوك الروسي- ومن خلفه الموقف الصيني- عما كان عليه عند الإدارة الدولية للأزمة الليبية في.2011 وربما كان وراء ذلك التحول في الموقفين الروسي والصيني عوامل مهمة من بينها وجود تصور جيواستراتيجي واحد أو متقارب فيما بين الدولتين; فروسياوالصين يصوغان سياساتهما علي أساس من هدف استراتيجي هو تحويل مركز الحركة الدولية إلي المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود وبحر قزوين والخليج العربي, وهي منطقة تجمع آسيا الوسطي مع قلب الشرق الأوسط, وذلك بديلا عن أوروبا كمركز لحركة النظام الدولي, حتي منتصف أو حتي نهايات القرن العشرين. ويضاف إلي ذلك أن نمو قوة الصينوروسيا يجعلان مركز النظام الدولي يتحرك من الأطلنطي غربا إلي الهادي شرقا. ولدينا هنا عدة مؤشرات مهمة من بينها الصعود المحتمل للصين كقوة اقتصادية عالمية أولي بحلول عام2016, وتحول الصين عسكريا من قوة إقليمية في المحيط الهادي إلي قوة دولية بعدما أجرت تدريبات لأول مرة لغواصات نووية ستحول جزءا من قدرتها النووية إلي بحار ومحيطات لا تتوقف عند حدود شرق آسيا. أما روسيا فهي قوة عسكرية عالمية, وهي قوة اقتصادية كبيرة, وتحاول أن تترجم ذلك سياسيا من خلال عضويتها في مجموعة' البريكس' وغيرها من التنظيمات الدولية الكبري. وكل ماسبق يعني أن مصر تأخرت في قراءة التطور أو التغير في خريطة العلاقات الدولية وهيكل النظام الدولي. إن علي مصر أن تتخلي وفورا عن منهج رد الفعل, وأن تنتقل إلي منهج الفعل. إنني أدعو من مقام الأهرام المحترم أن تبادر الدولة المصرية بالإعلان عن استغنائها عن كافة صور المعونة الأمريكية. وأنا أعرف أن في مثل ذلك النهج تحديا غير قليل, لكنني متأكد أيضا أن مصر تستطيع أن تأخذ المبادرة وأن تتحمل المخاطرة, وأن تدخل في نهج جديد لبناء قدراتها الوطنية- وبخاصة العسكرية منها- ذاتيا بمواردها الوطنية, مع الاعتماد علي مصادر بديلة للحصول علي المعدات والأسلحة العسكرية, حتي وإن أدي ذلك إلي فرض بعض التحديات التي لا يمكن أن تعوق قدرة مصر الوطنية وقفزتها المهمة إلي منطقة الفعل والمبادرة. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. لمزيد من مقالات د.مصطفي علوي