تعددت الروايات والأشعار التي تتخذ من الاندلس موضوعا للكتابة الأدبية و الشعرية, وهي في مجملها تتخذ من إعادة فهم وبناء تلك الفترة التاريخية وسيلة وطريقة لفهم الذات والوعي بصيرورتها, وتطور علاقتها بالآخر. لاسيما أن الصراع السياسي والاجتماعي لا يزال علي أشده بين الأنا و الآخر, فنحن لا نستطيع أن نستعيد التاريخ, لكن يمكن فهمه علي ضوء ما نمر به من أحداث, وما نعيشه من واقع, وكل إنسان يعيد بناء تاريخه الشخصي ليفهم حاضره وليدرك أبعاد المستقبل, وهو لا يقوم بهذا مرة واحدة في حياته, وإنما في كل مرحلة من حياته يطرح علي نفسه أسئلة الوجود الرئيسية: لماذا يعيش وكيف وما مصيره, وماهي علاقته بالآخر. وإذا كان هذا يدور علي المستوي الشخصي, فكيف يمكن أن يكون إعادة الفهم وإعادة البناء علي المستوي الكلي للأمة التي تحدق بها أخطار تهدد كيانها وهويتها, وقد اضطلع الأدب والفن بتقديم صور مختلفة لفهم الذات من خلال تلك الحقبة التاريخية التي التقي فيها العرب والغرب في الاندلس, أدي في النهاية لترحيل المسلمين لشمال إفريقيا. ويتشابه هذا مع الدور التي تقوم به اسرائيل من احتلال وترحيل العرب والدور الذي يقوم به الغرب الآن من محاولة تفتيت العالم العربي واستنزاف ثرواته في صراعات داخلية وخارجية. لا يمكن تناول كل النماذج الأدبية التي تناولت صورة الاندلس حتي نبين أن الرؤي الأدبية والجمالية في هذه الأعمال الأدبية تعكس فهما معينا للواقع الآني, وتعكس أيضا فهما للذات العربية, و تقدم أساليب مختلفة للحوار بين الأنا و الآخر, وإنما سنقف عند ثلاثة نماذج من الكتابة الأدبية عند كل من جورج زيدان ورضوي عاشور وعبد الإله بن عرفة. تناول جورجي زيدان تاريخ العرب في الأندلس من خلال روايتين هما:' فتح الأندلس' و'عبد الرحمن وشارل'. وتتناول رواية فتح الأندلس تاريخ أسبانيا قبيل الفتح الإسلامي, ووصفا لأحوالها ومن ثم فتحها علي يد القائد المغربي طارق بن زياد, ومقتل رودريك ملك القوط. وبعيدا عن الجدل حول أعمال جورجي زيدان فإنها من منظور النقد الثقافي تقدم نصا أخلاقيا ينتصر فيه الخير علي الشر بصرف النظر عن الفريق المنتصر, فمثلا في الديباجة التاريخية التي يقدمها في بداية رواية عبد الرحمن وشارل يبين أن العرب انتصروا في إسبانيا متي كانوا يحققون العدل وهزموا حين تخلوا عن العدل, وهي رؤية يمكن أن تنسحب علي الواقع المعيش أيضا, وهذا الطابع الأخلاقي في الانتصار للخير والعدل كأساس للحياة البشرية هو الرؤية الفلسفية التي تصطبغ روايات جورجي زيدان التي استخدمت التاريخ لتبرز هذه الحقيقة. وننتقل لتجربة رضوي عاشور في ثلاثية غرناطة هي ثلاثية روائية تتكون من ثلاث روايات للكاتبة المصرية رضوي عاشور وهم علي التوالي:' غرناطة' ومريمة' و'الرحيل وتدورالأحداث في مملكة غرناطة بعد سقوط جميع الممالك الإسلامية في الأندلس, وتبدأ أحداث الثلاثية في عام1491 وهوالعام الذي سقطت فيه غرناطة بإعلان المعاهدة التي تنازل بمقتضاها أبوعبدالله محمد الصغير آخر ملوك غرناطة عن ملكه لملكي قشتالة وأراجون, وتنتهي بمخالفة آخر أبطالها الأحياء لقرار ترحيل المسلمين حينما يكتشف أن الموت في الرحيل عن الأندلس وليس في البقاء. ولا يمكن فهم هذه الثلاثية بمعزل عن جملة انتاج رضوي عاشور وخطابها الأدبي والفلسفي والثقافي فهي تعمد لسبر غور المأساة العربية الراهنة في شتي نواحيها لتصبح الكتابة لديها فعلا ابداعيا للمقاومة وتحرير الذات من أغلال القهر وجميع أشكال استعمار الوعي والهوية واستلاب القدرة علي الفعل والتحرر ولذلك فهي تؤكد أنها لم تعمد لكتابة التاريخ, ولكن سؤال النهايات كان حاضر أو ملحا يمليه العجز والخوف ووعي بتاريخ مهدد' يتمثل في قصف الطائرات الاسرائيلية لسيناء عامي1956 و1967, وقصف لبنان عامي1978 و1982, والقصف المتصل للمخيمات الفلسطينية ومدن وقري الجنوب اللبناني. رضوي عاشور, في النقد التطبيقي: صيادو الذاكرة, المركزالثقافي العربي, بيروت والدارالبيضاء,2001, ص.240 وننتقل للكاتب المغربي عبد الاله بن عرفة في روايته: الحواميم'2010 والذي قدم من قبل رواياته جبل قاف(2002) في محاولة لكتابة سيرة حياة لسيدي محيي الدين بن عربي و'بحر نون'(2007) و'بلاد صاد'(2009), و قدم عبدالاله بن عرفه رواية الحواميم' ببيان أدبي حول الكتابة بالنور أوالكتابة بأحرف من نور', مبرزا خصوصية هذا الانتقال في المسار الإبداعي المعالم الرئيسية لهذا البيان من خلاله تحليل رؤيته للغة والمعني والقارئ والتاريخ والحقيقة والحضور والشهادة, مستضييء بهذا البيان لتبين المعالم الحكائية والجمالية والوجودية التي تثيرها' الحواميم'( يقصد بالحواميم السور السبع القرآنية التي تبدأ بحم, ويقصد بالحاء الحضور, و ميم المعني), خصوصا وأنها تتناول موضوعا في غاية الأهمية يتعلق بمأساة طرد الموريسكيين من الأندلس والتي احتفي العالم بمرارة مرور400 سنة علي صدور قرار هذا الطرد سنة1609,( الموريسكيون أوالموريسكوس بالقشتالية هم المسلمون الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط المملكة الإسلامية وخيروا بين اعتناق المسيحية أو ترك إسبانيا) وهذا ما جعل كل أحداث ومسارات السرد المتنوعة والغنية في الرواية تتمحور حول موضوع الصراع بين الحياة والموت( حم) كما يجسدها هذا النموذج. حلة مأساوية من تاريخ الإنسانية تمتد من سقوط مملكة غرناطة سنة1492 حتي طرد الموريسكيين بين سنوات1609 و.1614 واليوم وبعد مرور400 سنة علي قرار الطرد يكون هذا العمل شاهدا أدبيا وأخلاقيا علي هذه المرحلة وعلي الجرائم البشعة التي ارتكبتها محاكم التفتيش ضد المسلمين واليهود والبروتستانت. وبجانب هذه المأساة قصة حب مستحيل ينشأ من رحم الألم والحزن بين طريدين من أبناء أمة الموريسكيين علي ظهر سفينة. وكما كان هذا العصر مظلما بجرائم هذه المحاكم, فقد حفلت الرواية بمشاهد رفيعة وحوارات فكرية ممتعة عن بداية نشوء فكرالإصلاح والتنوير في أوروبا عند مارتن لوثر وكالفين; أو ظهور الإبداع الأدبي والفني المعاصر عند كلمنسير فانتيسو فيلاسكيز وعبدالإله بن عرفة مفصلا في مفهومه للإبداع وعلاقته بالكتابة واللغة والعرفان, ومعللا اختياره الجمالي والموضوعي علي حد سواء, طارحا جملة من القضايا حول راهنية استحضار مأساة المورسكيين ودلالة هذا الاستحضار وضرورة مطالبة أحفادهم إسبانيا بالاعتذار, خصوصا وأن هذه الأخيرة سبق وأن اعتذرت لليهود من جهة, وأطلقت مبادرة تحالف الحضارات من جهة ثانية, مما يجعل تأجيل هذا الاعتذار غيرمتسق مع الحرص علي الوصول بهذه المبادرة إلي غايتها. ويري عبد الاله بن عرفة أن مأساة الأندلس لم تنتهي بالنسبة للمغرب ولا تزال آثارها ممتدة إلي الواقع المعاش فما زالت إسبانيا تحتل سبتة و مليلة والجزر الجعفرية, وبالتالي يريد بكتابته ألا تستمر المأساة وأن ينشأ حوار حقيقي لا يهدر الحقوق. هذه النماذج الثلاثة تؤكد علي أن صورة الاندلس لا تزال تمارس فعلها, ولكن هذه المرة من خلال استعمار مباشر وغير مباشر للوطن العربي من الداخل يستنزف كل شيء. لمزيد من مقالات بقلم :د.رمضان بسطاويسي محمد