في العطلات, خاصة الطويلة منها, يدهشني كم الامتناع عن العمل في مصر وكيف تكاد جميع معالم الحياة العادية تتوقف تماما, وكأن العطلات, كالنوم, صنف من الموت الصغير, ولكن للمجتمع ككل. فالأعياد والمناسبات القومية يعني الاحتفال بها في الأساس أيام عطلة للامتناع عن العمل. وتكاد لا تنقضي عطلة إلا وتكون أخري لاحقة لها بسرعة. إن هذا الكم من الامتناع عن العمل لا مثيل له في أي بلد متقدم اعرف عنه. اضف إلي ذلك أن مصر بلد فقير بمعني أنه قليل الناتج وضعيف الإنتاجية, ويفتقر إلي الموارد المالية, بينما هو غني بالبشر, ومن ثم فإن رأسماله الأهم هو قوة العمل. وفي مثل هذا البلد علي الناس مضاعفة الجهد والتفاني في العمل لزيادة الناتج وتعظيم الإنتاجية. ولكن مصر تتفوق علي جميع بلدان العالم في عدد المناسبات الدينية والرسمية. وتعني كلها إجازة أو امتناعا عن العمل. ومنذ اعوام قررت حكومة فاشلة زيادة أيام عطلة نهاية الأسبوع إلي يومين وكأن مصر بلد غني لم يعد يحتاج لعمل ابنائه ستة ايام في الأسبوع. باختصار, التنظيم المجتمعي الراهن يهدر المورد الأبرز ومصدر القوة الاقتصادية الأهم في بلد كمصر. وبالمقارنة فإن الصين التي نجحت مؤخرا في إزاحة اليابان من موقع الاقتصاد الثاني الأكبر في العالم, مازال اهلها يعملون ستة ايام في الأسبوع ويبقون تحت طلب جهة العمل في اليوم السابع إن احتاج العمل, ولو لخدمة المجتمعات المحلية الفقيرة. وقد ادهشني عندما اتصلت بصديق صيني لأهنئه بيوم العيد الوطني(1 أكتوبر) واسأله ماذا فعل في يوم العطلة, أن اخبرني أنهم يعملون يوم العيد الوطني. وفي بعض المناسبات الاحتفالية يحظي بعض الفئات وحدهم بعطلة جزئية فقط من العمل. البلدان, مصر والصين, يفخران بحضارة عريقة تمتد لآلاف السنين, ولكن الحضارة الصينية مغرقة في الشعائر الاحتفالية. ولذلك فإن عدد المناسبات الاحتفالية سنويا في الصين يفوق عددها في مصر, ولكن عدد وطول العطلات من العمل في الصين اقل. فيزيد عدد أيام الإجازات الرسمية في مصر سنويا علي20 بينما هو في الصين.11 وهي في الأخيرة كما أشرت لا تعني في الصين الانقطاع التام عن العمل للجميع. هذه المقارنة تبين أحد جوانب إجابة السؤال الملح دوما: لماذا تنهض أمم بينما تبقي اخري متخلفة؟ هناك أسباب تاريخية ومجتمعية لكره العمل في مصر. في عصور سابقة كان العمل يرتبط بالسخرة والمشقة البالغة تحت ظروف مرهقة أو مميتة أحيانا بأمر من حاكم طاغية, كما في حالة الأشغال العامة وحفر قناة السويس, أو العمل الشاق لدي إقطاعي همجي أو صاحب عمل استغلالي لا يحترم إنسانية العمال. ومن ثم كان من الطبيعي ان يرتبط العمل بالمعاناة ويكتسب الامتناع عن العمل قيمة إيجابية كإحدي طيبات الحياة المترفة. وبالمناسبة, كانت إحدي سيئات دستور2012 المعطل تركه بابا خلفيا لعودة العمل بالسخرة. ولذلك تسربت إلي الثقافة الشعبية قيم سلبية تمجد الامتناع عن العمل والركون إلي الكسل من قبيل الكسل عسل. وفي حقبة المد النهضوي التي تلت ثورة يوليو1952 استجدت مناسبات احتفالية مرتبطة بإنجازات وطنية تحولت كلها إلي أيام تعطيل للعمل, وكان الأولي أن تمجد هذه المناسبات بمزيد من العمل المكرس للنهوض والتقدم. وفي عهود حكام افتقدوا مقومات موضوعية للشعبية كان رأس الحكم يستجلب شعبية بمنح أيام تعطل عن العمل في مناسبات احتفالية. ولكن لا تتوقف أسباب تفشي مرض إهدار العمل في مصر عند الإفراط في الإجازات الرسمية فهناك ظواهر وعادات اجتماعية تضر بالقدرة علي العمل الكفء في ايام العمل. إن تنافس عشرات القنوات التليفزيونية علي البث طوال ساعات الليل والنهار لا يستقيم مع دورة الحياة الطبيعية التي تخصص فيها ساعات الليل للراحة واستعادة النشاط من أجل العمل بهمة في نهار اليوم التالي. خاصة, وان الملاحظة العابرة تبين ان هذا الكم الضخم من البث مليء بالغثاء والتكرار الممل, ناهيك عن التزيد في نشر الإعلانات المضللة علي الأغلب. علي حين تتقاعس منظومة الإعلام عن القيام بدورها في نشر الثقافة الراقية وتعزيز القيم والحوافز الإيجابية اللازمة لنهوض مصر, وعلي رأسها إعلاء قيمة العمل المنتج والتفاني فيه. ويشير هذا التوصيف إلي أن تقليل ساعات البث التليفزيوني خاصة, يمكن أن يوفر موارد وعلي الأرجح سيفضي إلي الإجادة والارتقاء بالمحتوي, ورفع مساهمة الإعلام في مشروع للنهضة في مصر, وسيوفر نشاط المصريين للعمل بدلا من سهر الليالي في متابعة مثل هذا البث الإعلامي الهابط عموما. والسائد في مصر من طول البث لا يحدث في اي بلد يحرص علي العمل والإنتاج. ففي كثير من البلدان المتقدمة تخلو الشوارع من المارة مع حلول الظلام, و ينتهي إرسال الإذاعة والتليفزيون بعد العشاء بقليل ما يسمح بسهرة معقولة لمن اراد وبما لا يتنافي مع متطلبات العمل المنتج في اليوم التالي, وربما يبلغ الجيران الشرطة إن أتاهم صوت مذياع أو تليفزيون مرتفع من مسكنك بعد التاسعة مساء, حيث يحسن بالعاملين أن يخلدوا إلي النوم. ولعل الاستثناء الأهم هو الولاياتالمتحدة. ولكن من يريد التأسي بسوءات المجتمع الأمريكي الفادحة التي تؤذن بتفسخ هذه الثقافة المغرقة في العنف والابتذال؟ وخلاف الإجازات الرسمية الزائدة عن اي حد معقول, يتفنن المصريون كذلك في التهرب من العمل وهم في أماكن عملهم. والمثل الأبرز علي ذلك هو الاقتطاع من وقت العمل المخصص للإنتاج ولخدمة الجمهور في مواقع تقديم الخدمات, من أجل الصلاة وما يسبقها من وضوء وخلافه وهو أمر مذموم, خاصة إن اقترن بصنوف من الفساد الصغير كتلقي الرشي وإهمال المصلحة العامة. فالاسلام دعا إلي العمل وقرنه بالايمان في كثير من الآيات القرآنية وكذلك في السنة النبوية, فقال تعالي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا( مريم,96). وعن الرسول الكريم في صحيح البخاري أن العمل شطر من الإيمان ومن بات كالا من عمل يده بات مغفورا له. وفي السنة النبوية ان خاتم المرسلين فضل الأخ الكادح المتكسب من عمله علي اخيه الزاهد الناسك الذي يتعيش علي كد أخيه. وفي العصر الحالي يتعين ان يتوسع معني الحديث الشريف ليشمل العمل اليدوي والذهني معا. إن مصر لن تنهض إلا بإعادة غرس قيمة العمل والاجتهاد في عقول المصريين وافئدتهم. وهنا دور مهم للتعليم بجميع مراحله ولجميع وسائل الإعلام. غير أن قيمة العمل لن تعلو بين المصريين إن ظل أقصر الطرق للتمتع بطيبات الحياة هو السرقة والغش أو الاستغلال أو الحظوة من اصحاب المال والسلطة. فصل القول, دون مشروع للنهضة يقوم علي منظومة للحكم الديمقراطي الصالح تضمن القضاء علي جميع اشكال الفساد المالي والسياسي, ويؤسس لنظم تعليم ومنظومة إعلام تنتج نسقا صالحا للحوافز المجتمعية يعلي من مكارم الأخلاق, يعلي علي وجه الخصوص من قيمة العمل المخلص والإيثار والتفاني في خدمة المصلحة العامة, سيبقي التهرب من العمل من شيم المصريين, وسيظل المجتمع المصري متخلفا وغير منتج, متوهما أنه متنعم بكثرة الإجازات وتفشي سبل التهرب من العمل. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى