أريد بتعبير الحس الوطني, هذه الطاقة الخلاقة المبدعة التي تكمن في صميم كيان الإنسان, توحد بين ذاته وفكره وسلوكه وبين وطنه, فيشعر أن وطنه ملك له من أقصاه إلي أقصاه, وأنه هو ذاته ملك للوطن, وآمال وأحلام الوطن هي آماله وأحلامه, كما تسري محن الوطن في وجدانه كأنها محنته الشخصية, بل أزعم أن الحس الوطني غريزة زرعت في أعماق الإنسان, بل هي سنة وقانون في الوجود عند الطير والحيوان, فالكائن هو ابن بيئته, وشأنها كباقي الغرائز في الإنسان, كغريزة حب التملك وحب البقاء, الحق والخير والجمال, وليس الأمر غريبا أن يعشق الأنبياء والعلماء والعباقرة من أهل الآداب والفنون أوطانهم التي تترك بصماتها علي رسالتهم وإبداعهم, إن غرائز الإنسان في حاجة دوما إلي التنمية والثقافة والترويض والترقي كما يحتاج منذ الطفولة إلي العناصر التي تغذيه وتقويه, بل لعلي أقول في غير إسراف أنه حس يغلب علي باقي الأحاسيس والغرائز حين يشعر الإنسان أن وطنه في خطر, فتهون عليه الحياة بكل ما فيها من جاه ومتع وسلطان, إن الشهيد الذي ضحي بحياته من أجل وطنه, وضع قدما في الدنيا وقدما في الحياة الأخري, يخطو إلي الشهادة وقد داس علي كل ما في هذه الدنيا من مكاسب ومناصب وشهوات, كأنه يتذوق حلاوة الاستشهاد في خطواته نحو الفداء, أو كأنه يري فجر الأبدية والخلود, وفي المشاهد التي عرضها الإعلام عن بطولات حرب أكتوبر مثال حي, حقيقي لمعني الحس الوطني, وقد يعجب المشاهد, يحيط به الذهول من هذه الشجاعة الفائقة التي دفعت بهذا القائد أو ذاك الجندي لأن يندفع غير مبال بالموت, فقد سما به حسه الوطني فوق كل الأحاسيس, كأنه وهو في قلب النار والخطر قد أمسك بخيط الأبدية, ورأي إشراقه ونور الحقيقة وإكليل الشهادة, هذه اللحظات الفاصلة بين الحياة والموت لا يتحملها ولا يخوضها إلا حس وطني عميق, وإيمان صادق. يتعمق الحس الوطني في عقل وقلب الإنسان كلما شعر بقيمته في وطنه, اطمأن إلي الأمن, والعدل, والحرية والمساواة, لا شيء يقتل هذا الحس أبدا, لكن يخبو نوره وتوهجه وحماسه إذا أذله فقر أو ظلم أو قهر وبرغم هذه الضيقات فإن الخالق تبارك وتعالي يبعث رجالا أو نساء لينقذوا وطنهم, يخترقوا هذه السدود ويحطموا القيود ويجددوا روح الرجاء والأمل في أوطانهم, إن الذي يمتلك الحس الوطني القوي يتألم إذا رأي مواطنا له مظلوما, كأن الظلم قد وقع عليه, ويحزن مع الحزاني, ويفرح مع الفرحين, إن هذا الحس الوطني يحوله إلي إنسان كوني ينطلق منه ليحتضن آمال وآلام وطنه ومنها يحتضن آمال وآلام العالم كافة, فالوطن عنده ليس مجرد جغرافيا أو تاريخ أو تراث, بل الوطن عنده قبل ذلك كله هو المواطن الإنسان, أخوه في الوطن, في الماضي والحاضر والمستقبل ولو تأملت في حقيقة الأديان كافة لوجدت هدفها الأسمي أن توحد الأسرة البشرية علي الخير والسلام, وكيف تتوحد البشرية قبل أن يتوحد الوطن وتسقط الصراعات الأنانية التي تمزقه, ويغيب عن فضائه وأرضه التعصب أو التطرف أو الاستعلاء. أخذ من التاريخ المصري المعاصر دون التوغل فيه عناصر بلغ عندها الحس الوطني قمته, فتقدموا الصفوف وأرواحهم علي أكفهم لينهضوا بالوطن وليس معني ذلك انتقاصا لمن لم أذكرهم, وإنما هي قناعة مني أنهم ممن يمثلون قمة الحس الوطني, تأملوا معي مشهد عرابي, الفلاح المصري, الذي اندفع بحماس وطني غامر وتحدي الخديو الحاكم ومعه بضعة فرسان, والخديو محصن بالمحتل الأجنبي وببطانة من المستغلين مصاصي دماء الشعب, التاريخ يقر بأن عرابي في نهاية المطاف, ألقي به خارج الوطن منفيا حتي أنتقل إلي دار الخلد, لكن بعد أن ألقي بذور الكرامة والحرية والأمل, يموت الإنسان, وأي إنسان يحيا ولا يموت ولكن فكرته النبيلة لا تموت وتبقي كحبة الحنطة الذي يذوب جسدها في التراب لتنبثق من قلبها الزهرة الجميلة, لم يكن سلاح عرابي إلا حسه الوطني, دفع به إلي هذا الموقف وصرخ في وجه حاكم يستقوي بالغرباء صرخته التي لازال صداها يتردد حتي اليوم إن الله قد خلقنا أحرارا ولن نستعبد بعد اليوم هذه صرخة الشعب المصري في القرن التاسع عشر. أزعم أن دور الشعب المصري قد أنطلق منذ ثورة25 يناير ووضحت فاعليته في الحدث الفريد يوم ثلاثين من يونيه, ولم يزل هذا الشعب العظيم يقاوم كل تحد, ويعبر كل صعوبة, حطم قيود الخوف وذاق طعم الحرية الحقيقية وعليه أن يحفظ هذا الحس الوطني, وأن يبدأ في بناء رؤية للمستقبل. لست مسرفا إذا قلت أن مصر عادت إلي المصريين فماذا هم فاعلون بها ؟ لنأخذ من تراثنا نورا لطريقنا, وتراثنا يقول أن العمل عبادة, تأدية الواجب بإتقان وتفان صلاة صامتة, الحفاظ علي كنوز الوطن من آثار ومن ثقافة ذلك بعض من مسئولية ضمير كل فرد, هيا يا شعبنا العظيم, لا تطرف ولا عنصرية ولا احتقار للإنسان الآخر, سنمضي المسيرة بعرق وجهد المصريين, لأن حسهم الوطني سوف يبقي مشتعلا في كيانهم, بل سيظل الحس الأعظم عند بني مصر. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته