مصر في عيون مفكري الغرب.. 1- الفيلسوف الألماني هيجل(1770-1831) سألني صديق: لماذا لا تكتب لنا مقالا عن مصر في عيون هيجل لا سيما أنك عاصرته فترة طويلة, فضلا عن أنه كتب مؤلفا ضخما بعنوان محاضرات في فلسفة التاريخ ولابد أنه كتب عن مصر عندما كتب عن الشرق القديم؟!. ولقد وجدت ما طلبه الصديق منطقيا ومعقولا: لماذا نكتب عن الغربيين المتعصبين الذين يقذفون مصر بالحجارة ولا نكتب عن عمالقة الفكر الغربي الذين وضعوها في مكانة عالية.. الواقع أن هيجل علي الرغم من أنه جعل من مصر جزءا من الإمبراطورية الفارسية, فإنه جعلها درة ثمينة في هذا التاج, يقول اننا مع مصر نصل إلي المركب النهائي في العالم الشرقي فهي الجسر الذي عبرت عليه الروح الإنسانية من الشرق إلي الغرب, وهي تسترعي الانتباه بصفة خاصة لا لأنها أرض الآثار فحسب بل لأنها: تمثل النتيجة النهائية لعمل عظيم يفوق في ضخامته وجبروته كل ما خلفه لنا القدماء, فالعناصر التي كانت موجودة فرادي في المملكة الفارسية قد توحدت في مصر..! لقد كان النور في فارس هو ماهية الطبيعة الكلية, غير أن هذا المبدأ قد طور نفسه أطوارا متباينه, فانغمس في الحس عند البابليين والسوريين أحيانا ثم ظهر كوعي أولي للروح العينيConcrete الحي في عبادة أدونيس أحيانا أخري. ثم ظهر فكرا خالصا عند اليهود. لكن كان ينقصه في الحالة الأولي- أعني عند البابليين والاشوريين- وحدة العيني نفسه. ومن هنا فقد كانت تلك هي المهمة التالية التي قامت بها مصر وهي توحيد هذه العناصر المتناقضة. ويركز هيجل في تحليله علي صورة أبي الهول, ويري فيه رمزا للروح المصري: أبو الهول لغز غامض نصفه حيوان ونصفه إنسان; الرأس البشري يبرز من خلال جسم الحيوان, ويعرض الروح علي نحو ما تبدأ في الانبثاق من جانب الطبيعة منتزعة نفسها ومتأملة ذاتها في حرية دون أن تحرر نفسها تماما مع ذلك من القيود التي فرضتها عليها الطبيعة. بل ان الحضارة المصرية كلها وما فيها من آثار وصروح خلفها لنا المصريون نصفها تحت الأرض ونصفها فوق الأرض وفي الهواء, والأرض نفسها مقسمة إلي مملكة الحياة ومملكة الموت, والتمثالان الهائلان لممنون( وهما تمثالان كبيران للملك أمنحوتب الثالث) يمجدان نور الشمس, لكنه لم يصبح بعد نور الروح الحر الذي يسري فيهما. ويركز هيجل علي الارتباط بين ما هو روحي وما هو مادي أو طبيعي عند المصريين القدماء: فالشمس والنيل هما الألف والياء في تصور المصريين لماهية الطبيعة: النيل هو العامل الذي يحدد جغرافية البلاد: حواليه صحراء قاحلة, وفي الشمال البحر الأبيض وفي الجنوب حرارة لافحة ثم النيل رمز الحياة, وكذلك أيضا بالنسبة للشمس التي هي العامل الحاسم في تقسيم السنة إلي فصول وانضاج المحاصيل فهي رمز العطاء أيضا. وكما أن النيل يبدأ ويواصل العطاء في أيام الفيضان, ثم يولد من جديد, وهكذا دواليك. وهكذا تصل الشمس إلي حدها الادني في الانقلاب الشمسي في فصل الشتاء, ثم لابد أن تولد من جديد. ولقد عبرت أسطورة أوزوريس عن ذلك كله أدق تعبير, فقد قتله شقيقه الذي يمثل رياح الصحراء المحرقة, أما إيزيس الطيبة التي حرمت من الشمس والنيل فقد جمعت عظام أوزريس المتناثرة وراحت تنوح عليه, ومعها مصر كلها, وهنا نجد الألم وقد أصبح شيئا إلهيا, ثم يعود أوزوريس ليحكم, ولكنه لم يكن إلها أو رمزا فحسب بل هو الذي أدخل الزراعة وإختراع المحراث, وشرع القوانين. ووضع في يد الناس وسائل العمل وضمان إنتاجه. وإذا انتقلنا إلي العبادة المصرية لاسيما عبادة الحيوانZoolatry لوجدنا مثلا آخر في رأي هيجل علي وحدة الارتباط بين ما هو روحي وما هو طبيعي; فإذا كان المصريون قد عبدوا النيل والشمس والبذور, فقد أضفوا عليها تصورات روحية, وإذا كان ظواهر الطبيعة كالنجوم أو الجبال أو الأنهار.. إلخ فإن هيجل يعتقد أن العكس هو الصحيح, فالأمم التي عبدت الحيوانات هي أرقي من تلك التي عبدت ظواهر الطبيعة المادية. فقد تصور المصريون في عالم الحيوان الشيء الباطن وما هو غير قابل للإدراك, ونحن حتي الآن يدهشنا سلوك الحيوان الغريزي, وتكيفه مع البيئة وغرضية أفعاله. ولا نعرف ما تضمره هذه الحيوانات حتي اعتقد بعض الناس أن القط الأسود بعيونه البراقة يمثل كائنا شريرا في حين أن الكلب صديق وفي. وإذا كانت طبيعة الحيوان منغلقة علي نفسها, ولا يستطيع الإنسان فهمها أو الإحاطة بهما فإننا نستطيع أن نقول ان هناك منطقتين لا نستطيع الإحاطة بهما هما الطبيعة الحية, ومنطقة الروح, وإذا كانت الروح هي وحدها التي تستطيع أن تفهم الروح فإن الوعي الذاتي الكليل عند المصريين الذي لم تنكشف له بعد فكرة الحرية البشرية عبد النفس الغامضة التي لاتزال منغلقة علي نفسها في إطار الحياة البيولوجية وتعاطفت مع حياة الحيوان... ويعتقد هيجل ان شكل الحيوان تحول بعد ذلك إلي رمز- ربما بالغ الغموض- فقيل أن الخنفساء ترمز إلي التوالد والنشوء, ويرمز عجل أبيسApis إلي فيضان النيل والصقر إلي التنبؤ..إلخ ولو سرنا قليلا لوجدنا أن الفكرة تعمل علي تحرير نفسها من الصورة الحيوانية المباشرة بحيث ينبثق المعني الخفي والروحي بوصفه الوجه البشري من الصورة الحيوانية ولهذا تعددت الأشكال التي يتخذها أبو الهول مما يؤكد أن معني الروحي هو المشكلة التي طرحها المصريون علي أنفسهم في صورة لغز هو أبو الهول بصفة عامة لا يبوح بشيء مما هو مجهول, لكنه يمثل التحدي للكشف عنه, وهكذا نجد مصر وقد حصرت نفسها في ارتباط وثيق بالطبيعة وان حاولت أن تكسر هذا الإرتباط ليبرز الروح الكامن تحت السطح..!. عليك أن تعي- عزيزي القارئ ذ فكلما تقدمت الروح وبرزت دل ذلك علي تقدم هذا المجتمع وتطوره, وبهذا نجد الروح المصري في رأي هيجل يكافح لكي يظهر في جميع مناحي الحياة, فهو يتقدم أكثر عندما ينتقل من عبادة الظواهر الطبيعية كالنجوم والأفلاك, والجبال, والأنهار, وغيرها من المواد الجامدة إلي عبادة الحيوانات كما رأينا فهذه خطوة متقدمة إلي الأمام بحثا عن ظهور الروح. ومن هنا فإن هيجل يعتقد أن الروح المصري واضح في الفن فهي روح قوية ملحة لم تكن قادرة علي البقاء في إطار التصور الذاتي, بل كانت مضطرة للخروج والتعبير عن مضمونها بواسطة الفن فقامت بتحول النظرة الطبيعية المباشرة لليل والشمس- إلي أشكال تشارك فيها الروح, فهي روح رمزية وهي بما هي كذلك تجاهد للسيطرة علي الرمزية ولتمثيلها بوضوح أمام نفسها, وكلما ازدادت غموضا والغازا أمام نفسها ازداد شعورها بالدفع إلي العمل لكي تحرر نفسها من سجنها ولتصل إلي تصور موضوعي. وهذا الجانب الغني الهائل الذي كان سمة يتميز بها الروح المصري بسعي هذا الروح من ورائه لا إلي البهاء والمتعة أو اللهو بل إلي فهم نفسه. ليس أساسه سوي أن يشكل أفكاره في حجارة ونقوش عليها ألغازها وتلك هي الهيروغليفيات. فالفكر( أي الروح) في النهاية هو الذي يسيطر علي المادة أو الحجارة وهذا هو التقدم الحقيقي, فكلما ارتقي الفكر في مجتمع من المجتمعات, وكلما برزت الروح دل ذلك علي تقدم هذا المجتمع وتطوره. وهنا يعلمنا هيجل أن ما يقال الآن عن روحانية الشرق وهم وتضليل, فالروح وإن كانت قد بزغت من الشرق فإنها الآن تعاني فيه وتكابد لكي تخرج عن إطار المادة دون أن تنجح, فالإنسان الشرقي لايزال بصفة عامة غارقا في الحس حتي الأذنين دون أن يحاول الارتفاع إلي الفكر المجرد( لاحظ أن الحضارة تجريد, ومن هنا كان تخلف الإنسان الشرقي). صحيح أن الشرقيين يتحدثون كثيرا عن الروح والروحانيات لكنهم يقفون عند حدود الحديث فحسب دون أن يتخطوه إلي الفعل, تماما مثلما يتحدثون عن القراءة أو يفاخرون بأن أول آية من آيات القرآن الكريم هي الأمر الإلهي أقرأ ومع ذلك يكرهون القراءة كراهية التحريم.! ويتساءل هيجل: كيف تصور المصريون الإنسان؟! ويجيب: كان المصريون أول من عبر عن الفكرة القائلة بأن النفس البشرية خالدة وهي فكرة تتضمن أن الفرد البشري يمتلك في ذاته قيمة لا متناهية, وإن كانت فكرتهم عن النفس أنها ذرة مجردة أعني أنها شيء جزئي. وإذا أدركنا أن النفس ذات وجود دائم فلابد من إضفاء الشرف علي الجسد بأعتباره مقر سكناها السابق, وذلك بتحنيطه, كما كانت تدفن مع الموتي مشاغل الحياة فيدفن مع الحرفي أدواته..إلخ ويقول هيجل اننا لو أردنا أن نلخص خصائص الروح المصري لقلنا أنها تتألف من عنصرين أساسين: الروح الغارقة في الطبيعة والرغبة الملحة إلي التحرر منها. فنجد أمامنا كفاح الروح من أجل التحرر من الطبيعة كما يمثله أروع تمثيل صورة أبو الهول إذ يلعب الخيال دورا والأشكال التي خلفها الفن جنبا إلي جنب مع الفهم المجرد. ويروي هيجل أن كاهنا مصريا قال ذات مرة أن اليونانيين سيظلون إلي الأبد أطفالا( بالنسبة للمصريين!!) وأن كان هيجل يعتقد أن المصريين كانوا صبيانا أقوياء ممتلئين بطاقة خلاقة ولا يحتاجون إلي شيء سوي الفهم الواضح لأنفسهم لكي يصبحوا شبانا. وهكذا نجد هيجل يعلي من شأن الحضارة المصرية القديمة فيجعلها أول حضارة في التاريخ, وأول ظهور للروح ومحاولتها الخروج من إطار المادة, وهي أول حضارة آمنت بخلود النفس البشرية ومن هنا اهتمت بتحنيط الجسد لكي تعود إليه الروح يوما ما, وهي التي علمتنا أن الحضارة فكر وروح, الحضارة تجريد, ومهما ابتعد الأحفاد عن هذه المفاهيم السامية فسوف يظل للأجداد العظمة والرفعة فهم بناة الأهرام وأبي الهول وهي كلها تجسد أفكارا بالغة الأهمية لاتزال البشرية حائرة في فهمها إلي يومنا الراهن وإن كان البلهاء منا حاولوا هدمها بعد عجزهم عن تفسيرها فجاء العظماء من الغرب ليقولوا بصوت صارخ: أحذروا: هذه أول حضارة في التاريخ أيها البلهاء!!