قامت لجنة العشرة التي كلفت بتقديم اقتراحات لتعديل الدستور بإلغاء كل مواد الأوقاف التي نص عليها دستور سنة2012 م إلي جانب مواد أخري ألغتها أو عدلتها. وبهذا الإلغاء ارتكبت اللجنة خطأ فادحا في حق المجتمع والدولة معا حيث تعمل الأوقاف عندما تكون متطورة وفعالة في خدمتهما معا, وتسهم في تقوية المجال التعاوني المشترك بينهما. والسؤال هو: لماذا ألغت لجنة العشرة تلك النصوص؟ وما الذي يجب عمله ؟. في الفصل الثالث من الباب الأول نص دستور2012 في م/21 علي أن تكفل الدولة الملكية المشروعة بأنواعها العامة والتعاونية والخاصة والوقف, وتحميها; وفقا لما ينظمه القانون. ونص في م/25 من نفس الفصل علي أن: تلتزم الدولة بإحياء نظام الوقف الخيري وتشجعه. وينظم القانون الوقف, ويحدد طريقة إنشائه وإدارة أمواله واستثمارها وتوزيع عوائده علي مستحقيها وفقا لشروط الواقف. أما في الباب الرابع فقد نص في م/212 علي أن تقوم الهيئة العليا لشئون الوقف علي تنظيم مؤسساته العامة والخاصة, وتشرف عليها, وتراقبها وتضمن التزامها بأنماط أداء إدارية واقتصادية رشيدة, وتنشر ثقافة الوقف في المجتمع. وفي رأينا أن تلك النصوص الثلاثة من شأنها أن تسهم في رد الاعتبار لنظام الوقف الخيري بعد أن جري انتهاكه بمنهجية منظمة ابتداء من منتصف خمسينيات القرن الماضي. ومن شأن تلك النصوص أيضا وهذا هو الأهم أن تسهم في إعادة التوازن في علاقة المجتمع بالدولة, هذه العلاقة التي اختلت لعقود طويلة لمصلحة الدولة بعد أن أحكمت الدولة سيطرتها علي نظام الوقف وفككت بنيته الاقتصادية. وبعد أن نقلته من حيزه الاجتماعي المدني المنفتح إلي حيزها البيروقراطي الحكومي المغلق. وبعد أن استولت علي مؤسساته التعليمية والصحية والاجتماعية والدينية. وبتلك السيطرة الحكومية علي الأوقاف تم أيضا تجفيف منابع التمويل الأهلي لمؤسسات المجتمع المدني بمختلف أنواعها. وباتت تلك المؤسسات نهبا لمخاطر التمويل الأجنبي الذي تشتكي منه الدولة مر الشكوي!, أو رهنا للإعانات الحكومية الهزيلة وضغوطها. إن نصوص الأوقاف التي ألغتها لجنة العشرة, كان من شأنها إن بقيت في الدستور أن تلزم الدولة بتهيئة مناخ ملائم لإحياء نظام الوقف الخيري, وأن تسهم في رفع مستوي المشاركة الاجتماعية في الشئون العامة بشكل عملي من خلال التبرع بالأوقاف لدعم الخدمات والمنافع التي يحتاجها جمهور الشعب. لا يوجد سبب عقلاني رشيد أو حتي حداثي يمكن أن يبرر إلغاء لجنة العشرة لمواد الأوقاف من الدستور. فلا وجه للقول مثلا إن الأوقاف لا أهمية لها اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا كي ينص عليها في الدستور; اللهم إلا إذا كانت اللجنة لا تعلم أن الأوقاف هي القاعدة الصلبة التي تكفل استقلالية جميع ما نسميه مؤسسات المجتمع المدني; وأن الأوقاف هي التي تكلفت فعلا حتي منتصف القرن الماضي ببناء وتمويل أغلب الجمعيات الأهلية والمؤسسات المدنية من مدارس, وملاجئ, ومستوصفات, ودور أيتام, ومكتبات عامة... إلخ, إضافة إلي المساجد ومعاهد التعليم الديني وعلي رأسها الأزهر. ومن الناحية الاقتصادية, قد لا تعلم اللجنة أن حجم الأراضي الزراعية التي تديرها اليوم هيئة الأوقاف المصرية عبارة عن مائة ألف فدان أو يزيد قليلا, إضافة إلي قطاع كبير من المباني والعقارات والعمارات السكنية المنتشرة في أغلب المدن المصرية. ولا تزال وزارة الأوقاف تسعي لاسترداد بقية الأراضي الموقوفة المنهوبة خلال الخمسينيات والستينيات. وقد لا تعلم اللجنة أيضا أن الأهمية الاقتصادية للأوقاف دفعت صندوق النقد الدولي لدراسة حالة أوقاف مصر, وأصدر بشأنها تقريرا في منتصف التسعينيات من القرن الماضي إبان البحث في كيفية تطبيق سياسات الإصلاح وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري. وقد تتوهم اللجنة أن الدساتير العصرية لا تتضمن نصوصا خاصة بالأوقاف. ولكن مراجعة الدساتير العصرية في كثير من البلدان الديمقراطية توضح أنها تتضمن نصوصا بشأن نظم تشبه الأوقاف الخيرية, ومنها دساتير: ألمانيا, وإسبانيا, وأستراليا, وهولندا, والسويد, والهند. وكل هذه الدساتير تنص علي كفالة حق المواطنين في تأسيس الوقفيات الخيريةEndowments وتخصيصها لتمويل جمعيات النفع العام ومنظمات المجتمع المدني. ونجد أيضا أن بعض الدساتير حديثة الصدور في بلدان عربية قد نهجت هذا النهج, ومنها دستور الجزائر لسنة1989 الذي نص ف م/49 علي أن الملكية الخاصة مضمونة. وحق الإرث مضمون. والأملاك الوقفية وأملاك الجمعيات الخيرية معترف بها, ويحمي القانون تخصيصها. ومنها دستور الأردن الذي نص في م/107 علي أن تعين بقانون خاص كيفية تنظيم أمور الأوقاف الإسلامية وإدارة شئونها المالية وغير ذلك. إذا كانت الاعتبارات السابقة غائبة أو غير واردة لتبرير الإلغاء, فليس أمامنا إلا البحث عن تبرير سياسي/أيديولوجي لعملية الإلغاء هذه. وهذا التبرير مؤداه هو أن الذين يقومون بتعديل الدستور تسيطر عليهم ما نسميه في علم السياسة النزعة الدولتية; وهي نزعة شمولية تسلطية متطرفة, يري أصحابها أن الدولة يجب أن تكون دوما فوق المجتمع, وأن المجتمع يجب أن يظل خادما لها وليس العكس. ويرون أيضا أن كل قوة اجتماعية ذات استقلالية ولو نسبية عن الدولة كالأوقاف ومؤسسات المجتمع المدني هي خصم من قوة الدولة, وشريك لها في اقتسام السلطة الاجتماعية; ومن ثم فهي مرفوضة لأن النزعة الدولتية لا تقبل شريكا في سلطتها ولا تطيق وجود أي مؤسسات أو منظمات مدنية مستقلة عنها. إن إلغاء مواد الأوقاف من الدستور هو إلغاء لجزء أصيل عمره ألف وأربعمائة سنة في مكونات تراث الشعب المصري العريق بكل طوائفه. وفي هذا الإلغاء حرمان لممتلكات الأوقاف من حماية الدولة. وهذا الحرمان بحد ذاته هو تمييز غير دستوري ضد نوع خاص من أنواع الملكية وهي الأوقاف المرصودة للنفع العام, في حين تكفل المادة المعدلة الحماية فقط لأنواع الملكية الثلاثة: العامة والخاصة والتعاونية. والسؤال هو: من ذا الذي يتكفل بحماية ممتلكات الأوقاف وهي نمط خاص قائم بذاته من أنماط الملكية؟. إن علي لجنة تعديل الدستور أن تتدارك الأمر قبل فوات الأوان, وتعيد مواد الأوقاف إلي مكانها في الدستور. لمزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم