أمام الجمعية التأسيسية فرصة ذهبية لوضع نص خاص بالأوقاف ومؤسساتها في دستور مصر الجديد. وفي هذا الموضوع وبدعوة من الجمعية تحدثت أمام لجنتها المختصة بالهيئات المستقلة يوم24 يوليو2012. وبعد أن أوضحت فلسفة الوقف وأهميته ومكامن مشاكله في الواقع المصري, انتهيت إلي أننا بحاجة إلي مادتين دستوريتين: الأولي تخص نظام الوقف. واقترحت صيغة لها تقول إن حق إنشاء الأوقاف الخيرية والأهلية ومؤسساتها مكفول وينظمه القانون. والثانية تخص المفوضيات العامة المستقلة عموما ومنها مفوضية عليا مستقلة وغير حكومية لإدارة واستثمار الموقوفات. واقترحت صيغة لها تقول: تضمن الدولة للمواطنين حق إنشاء وإدارة مفوضيات عامة تعبر عن المجتمع المدني, وتكون مستقلة عن السلطة التنفيذية وتعمل لخدمة أهداف التنمية الشاملة والتضامن الاجتماعي. هنا أقدم ما يشبه مذكرة تفسيرية للمادة الخاصة ب حق إنشاء الأوقاف الخيرية ومؤسساتها; حيث أراها تقوم علي ثلاثة أسس هي: الأساس الأول هو أن الوقف حق, ذلك لأن الحكم الشرعي للوقف هو الندب وليس الفرض. هو فرض كفاية وليس فرض عين. وإذا كانت كل الفروض واجبات, فإن كل المندوبات حقوق; فلك أن تفعل ما هو حق لك فتحصل علي الثواب أو تدعه فلا تأثم بخلاف الفروض. ولهذا فإن الرسول صلي الله عليه وسلم عندما استشاره عمر بن الخطاب فيما يفعل بأرض له قال إن شئت حبستها وتصدقت بثمرتها. وهذا الحديث مما يستدل به علي شرعية الوقف وعلي أنه مندوب أيضا. ولما كان الحاصل هو أن السلطة المصرية تدخلت في تقنين الوقف منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي بإصدار القانون برقم48 لسنة1946 ثم زاد تدخلها بقوانين متتالية أصدرتها ثورة يوليو; علي نحو يقيد حق الوقف, ويحد من حرية المواطن في اختياره كوسيلة للتبرع; وبما أن هذا التدخل قد أدي إلي فقدان الثقة في نظام الوقف وإحجام المواطنين عن إنشاء أوقاف جديدة ابتداء من منتصف الخمسينيات إلي اليوم; إذن فالعلاج يكون برد الأمر إلي أصله. والأصل هو أن لكل مواطن الحق في أن يتبرع وفق نظام الوقف إن شاء. وليس لأي جهة أو سلطة أن تحد من رغبته في ممارسة هذا الحق, أو في التمتع بحرية اختيار وسيلة مشروعة للتبرع. وعليه رأينا أن تكون البداية بوضع مادة دستورية تحصن هذا الحق باعتباره من الحقوق والحريات المكفولة للأفراد والمجموعات, وأن يترك للقانون فقط تنظيم ممارسته دون أن يفرغه من مضمونه. سبب آخر يسوغ إدراج مادة الوقف في باب الحقوق والحريات, وهو أن إنشاء الأوقاف الخيرية هو في صميمه عمل تحرري وتحريري بالمعني الواسع الذي يشتمل علي تحرير نفس المتبرع بالوقف من أسر شهوة التملك, ومن قيد الأنانية والعزوف عن المشاركة في شئون مجتمعه, وهو أيضا عمل يسهم في فك القيود التي يفرضها الفقر أو الجهل أو المرض أو العوز علي بعض أفراد المجتمع أو بعض فئاته; حيث تساعد مؤسسات الوقف الخيري علي تحريرهم من هذه القيود, علي نحو ما ثبت في التجربة التاريخية لنظام الوقف قبل أن تفسده السلطة بتدخلها فيه وسيطرتها عليه. الأساس الثاني هو أن الوقف خيري وأهلي. والفرق بين النوعين هو أن الخيري يكون ريعه أو عائده مخصصا من أول نشأته للإنفاق علي وجه أو أكثر من وجوه البر والمنافع المجتمعية العامة, أما الأهلي فيكون بداية لأفراد أسرة الواقف وذرياتهم; فإذا ما انقرضوا آل ريع الوقف إلي الخيرات والمنافع العامة. وهناك الوقف المشترك الذي يجمع بين الخيري والأهلي بنسب يحددها الواقف. وقد أجاز الفقهاء الوقف بأنواعه الثلاثة. ولكن الممارسة الاجتماعية كشفت عن سلبيات هائلة اقتصاديا واجتماعيا في الوقف الأهلي. وكانت تلك السلبيات سببا رئيسيا في المطالبة بإلغاء نظام الوقف برمته بحجة أن أضراره أكثر من منافعه; بدليل تكدس المحاكم بعشرات الآلاف من المنازعات القضائية التي أورثت العداوة والشحناء بين أبناء العائلات. وقد حاول قانون الوقف رقم48 لسنة1946 معالجة مشكلة الوقف الأهلي فقيده بطبقتين/جيلين فقط من أبناء الواقف, أو ستين سنة أيهما أقرب, ثم ينتهي الوقف بعدها ويصبح ملكا لمستحقيه. ولكن المرسوم رقم180 لسنة1952 الذي صدر بعد51 يوما فقط من قيام ثورة يوليو, قضي بمنع إنشاء الأوقاف الأهلية, وأبقي فقط علي الأوقاف الخيرية. فكان رد الفعل علي ذلك هو امتناع المصريين عن إنشاء أية أوقاف إلا نادرا من ذلك الحين; حيث فقدوا الثقة في النظام الحكومي للوقف, وخاصة بعد أن منح القانون247 لسنة1953 وزير الأوقاف سلطة تغيير صرف ريع الوقف وجعله علي أغراض أخري غير التي حددها صاحب الوقف نفسه. وكانت خسارة المجتمع فادحة باستيلاء الحكومة من بعد ثورة يوليو علي الأوقاف ومؤسساتها بما فيها المساجد; لأن أغلبية المؤسسات الأهلية فقدت المصدر الأساسي لتمويلها ذاتيا, وأضحت ضحية الجهة التي تتفضل عليها بالتمويل: إما الحكومة وتمويلها عادة ما يكون قليلا, أو جهة أجنبية وتمويلها عادة ما يكون كبيرا; وفي الحالتين وقعت أغلبية تلك المؤسسات أسيرة شروط أو قيود الجهة الممولة لها. وكانت النتيجة هي تدهور مؤسسات المجتمع المدني, أو دخولها في مواجهات ضد الدولة لم تتوقف إلي اليوم. ونقطة البداية في إصلاح ما حدث هي استرداد الثقة المفقودة. واستردادها يكون برفع يد الحكومة عن الأوقاف وإلغاء صلاحيات وزيرها في تغيير إرادة الواقفين, وإلغاء حظر الوقف الأهلي والعودة إلي نص قانون48 لسنة1946 الذي أباح الوقف الأهلي مؤقتا بطبقتين أو ستين سنة كحد أقصي. وهذا حل وسط يتلافي سلبيات تأبيده, ويجني إيجابياته التي تدعم الثقة المجتمعية في الوقف عامة. مع تأكيد ضرورة توافر القربي في نوعي الوقف(الخيري والأهلي), والاحتياط لعدم تكرار السلبيات التي عاني منها في السابق. وهذه المسائل التفصيلية موضوعها قانون جديد للوقف وليس الدستور. الأساس الثالث: وصل الوقف بمؤسساته; حيث إن الأصل هو وجود صلة قوية بين الوقف الخيري والمؤسسات الأهلية التي يمولها, مثل: المساجد, والمدارس, والمستشفيات, ودور الأيتام, والملاجئ, ومؤسسات التدريب المهني...إلخ. وقد ظل العمل وفق هذا الأصل إلي أن تأسست وزارة الشئون الاجتماعية سنة1939 كما أسلفنا, وتعمق الفصل بالقوانين التي صدرت بعد ذلك. وانفصلت تلك الصلة تماما بعد ثورة يوليو وإجراءاتها وقوانينها بشأن الوقف وخاصة المرسوم بقانون180 لسنة1950, والقانون رقم247 لسنة1953, وقانون وزارة الأوقاف رقم272 لسنة1959, وأيضا قانون الجمعيات رقم32 لسنة1964 الذي أحكم سيطرة الدولة علي مؤسسات المجتمع المدني وعزلها تماما عن الوقف, وما كان لهذا القانون أن يحقق تلك السيطرة قبل إحكام عملية الاستيلاء البيروقراطي علي الأوقاف كما أوضحنا. كانت الصلة بين التمويل الوقفي للجمعيات الأهلية قد نشأت وأخذت تقوي منذ أواخر القرن التاسع عشر عندما تأسست في سنة1310 ه/1892 عدة جمعيات خيرية كبري لا تزال قائمة وهي: الجمعية الخيرية الإسلامية, وجمعية المساعي المشكورة, وجمعية العروة الوثقي, وسبقتها جمعية التوفيق القبطية. ثم تطورت صلة الوقف بالجمعيات خلال النصف الأول من القرن العشرين. وشارك عدد من قادة الحركة الوطنية المصرية ومنهم سعد زغلول وعبد العزيز باشا فهمي وعلي شعراوي وهدي شعراوي وغيرهم في تطوير ومأسسة تلك العلاقة بين الوقف والجمعيات الأهلية, إدراكا منهم لأهمية تقوية المؤسسات المدنية من ناحية, وأن تكون من ناحية أخري معتمدة في تمويلها علي الأوقاف الخيرية كي تكون حرة ومستقلة بذاتها عن أي جهة. من نقطة انقطاع الصلة بين الوقف كممول عن الجمعيات الأهلية; انفتح باب التمويل الأجنبي علي مصراعيه, وأضحت لدينا جهة تملك التمويل الذاتي( الأوقاف) ولكنها مبتوتة الصلة بالجمعيات وغيرها من المؤسسات المدنية التي كانت تمول أنشطتها, وجهة تختص بتنظيم عمل الجمعيات وتلك المؤسسات والإشراف عليها لكنها لاتملك تمويلها. والحل هو ما اقترحناه بوجوب النص في الدستور علي حق إنشاء الأوقاف ومؤسساتها; كي نعيد وصل ما انقطع مع العلاقات المباشرة بين الأوقاف والجمعيات الأهلية سدا لذرائع فساد التمويل الأجنبي ومصائبه. المزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم