كل شيء يتغير، إلا الوقف فإنه حتى اليوم لم يتغير.. بهذه الكلمات القليلة لخص أديبنا العالمى نجيب محفوظ فى روايته «قلب الليل» واحدة من أعقد المشكلات التى يعانى منها نظام الوقف فى أدائه لوظائفه فى المجتمع المصرى منذ ما يزيد على نصف قرن، إنه «الجمود» وما أدراك ما الجمود عندما يلتصق بنظام «الثبات» الذى هو أبرز خصائص الأوقاف وإن كان هذا «الثبات» لا يعنى أبدا التيبس أو عدم القدرة على مواكبة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولكن بعد نجاح ثورة 25 يناير بات كل شىء يتغير حتى الوقف فإنه لا محالة سيتغير مع الاعتذار لأديبنا الكبير المرحوم نجيب محفوظ. للأوقاف فى مصر رواية ذات فصول كثيرة أغرت أديبنا الكبير كى يقتبس من فصولها ووقائعها مثلما أغرت كثيرين غيره، رواية الأوقاف المصرية طويلة تختلط فيها الدراما باليوتوبيا والكوميديا بالتراجيديا، فى رواية الأوقاف نجد الدراما التى هى أعلى ما يمكن تحقيقه فى عالم الواقع الإنساني، حيث يختلط الخير بالشر وهو ما حدث للأوقاف على طول الزمن ونجد اليوتوبيا التى هى أعلى ما لا يمكن تحقيقه إلا فى مجتمع الملائكة، وهو ما كان يأمله المحسنون الذين تبرعوا بأموالهم وحبسوها من أجل الفقراء والمساكين والخير العام لأبناء المجتمع، ونجد أيضا الكوميديا التى هى تعبير عن المواقف المضحكة الساخرة من الحياة وأفعال بعض بنى آدم، وهو ما نجده مثلا فى التناقضات التى رصدها نجيب محفوظ فى قصته «قلب الليل» بين أحوال جعفر الراوى وأحوال جده الذى كان من أكبر بناة الأوقاف لصالح الفقراء وذوى الخصاصة، فى رواية الأوقاف نجد كذلك التراجيديا التى هى تعبير عن المواقف المأساوية التى يقع فيها بعض بنى البشر، أو تسوقهم أفعالهم أو أفعال غيرهم للوقوع فيها، وهو ما تشهده أروقة وزارة الأوقاف حتى اليوم من الوقوف المنكسر لكثيرين من أحفاد وذرارى العائلات كانت غنية وذات أوقاف ثرية طلبا لبعض الاحسانات والمساعدات مما تبقى من أوقاف جدودهم. تؤز رواية الأوقاف فى مصر أزيز النحل بدعاء الصالحين، وتسبيحات المتقين وتوسلات المحرومين وابتهالات العابدين، وتعج فى ذات الوقت بأصوات الفاسدين وصراخ الطامعين وضجيج الظالمين وجسارة اللصوص والسارقين، أراد الصالحون أن يصلوا إلى رضوان الله عبر خدمة مجتمعهم بالأفعال لا بالأقوال فبذلوا خلاصة أموالهم وسبلوها للانفاق من ريعها على وجه الخير والمنافع العامة. وأراد الفاسدون أن يقطعوا الطريق على أنفسهم أولا وعلى غيرهم ثانيا حتى يحرموا من حلال هذا الخير، ويغرقوا فى حرامه وليثبتوا أن الخير لا يمكن أ ن يتمخض من الشر فى هذه الحياة أبدا وأنهما مزيجان مختلطان بنسب مختلفة الأوزان والأحجام فقط، والعجب كل العجب أن أمة كالأمة المصرية يكون لها إرث هائل من الأوقاف الخيرية والمؤسسات العامة التى نشأت بفضلها؛ لاتزال لاهية عن هذا الإرث مضيعة له مفرطة فيه منصرفة عن اصلاحه وتجديده مثلما فعلت وتفعل أمم أخرى، صحيح أن هناك بعض التحسن النسبى الذى شهدته الأوقاف المصرية خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، مقارنة بالمأساة الكبرى التى مرت بها خلال الخمسينيات والستينيات من القرن نفسه، ولكن نظام الأوقاف المصرى فى جملته لاتزال صلته واهية بمجاله الحيوى وهو مجال المجتمع المدنى (الأهلى) الذى نشأ منه ونشأ من أجل تحقيق أغراض متنوعة تدعم فى جملتها المؤسسات الاختيارية ومرد هذا الوهن إلى سببين أساسيين: الأول: هو أن نظام الوقف لايزال مسيرَّا وفقا لإرادة السياسات الحكومية التى تنفذها وزارة الأوقاف وليس وفقا لإرادة المجتمع التى حددتها شروط الواقفين الذين أرصدوا ممتلكاتهم وخصصوا ريعها للانفاق على بناء مؤسسات مجتمعنا المدنى الأصيل. ومن أجل مظاهر هذا التسيير أن وزارة الأوقاف تقوم بإنفاق معظم ريع الأوقاف الخيرية فى غير ما شرطه الواقفون متذرعة بأنها مخولة فى ذلك بموجب قوانين صدرت فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، الأمر الذى أضعف الصلة التاريخية بين الأوقاف ومؤسسات مجتمعنا المدنى (الأهلى) ولسنا هنا بصدد تقييم ايجابيات أو سلبيات هذه السياسة أو غيرها، ولكن المقصود هو بيان مدى خضوع الأوقاف التى تسيطر عليها الحكومة منذ مطلع الخمسينيات لتقلبات السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة. والسبب الثانى فى استمرار وهن علاقة نظام الوقف بمجاله الاجتماعى الأصيل هو أنه لايزال حبيسا لترسانة القوانين التى قيدته وجففت منابع تجديده منذ قيام ثورة 23 يوليو وأهمها القانون 180 لسنة 1952 بإلغاء الوقف الأهلى على غير الخيرات وقد كان الوقف الأهلى يمثل مصدرا لتغذية الأوقاف الخيرية والقانون 247 لسنة 1953 بشأن تنظر وزارة الأوقاف على الأوقاف الخيرية وتغيير مصارفها وشروط إدارتها. وكذلك القانون 272 لسنة 1959 بشأن تنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها وجميع القوانين المعدلة أو المكملة لتلك التشريعات، إلى جانب بعض أحكام قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946 والقانون رقم 84 لسنة 2002 ومن قبله القانون رقم 32 لسنة 1964 بشأن الجمعيات والمؤسسات الأهلية، الذى أخضع كل صور العمل الأهلى التطوعى للاشراف الحكومى المركزى. إن البنية التشريعية القانونية التى وضعتها الدولة لنظام الأوقاف وهى تعكس العديد من التحولات فى التوجيهات العامة للدولة وعلاقتها بالمجتمع قد أسرت نظام الوقف داخلها وعزلته عن الحركة الحرة وأسهمت ضمن عوامل متعددة فى اضعاف الميل الاجتماعى نحو إنشاء أوقاف جديدة، بل و فى حجب نظام الأوقاف وتقاليده المؤسسية الخاصة به عن مجاله الاجتماعى الفسيح وتحتاج تلك البنية التشريعية القانونية إلى نقد اجتماعى وشرعى وقانونى وإلى اعادة النظر فيها بناء على هذا النقد وتعديلها حتى تتهيأ عوامل الثقة الاجتماعية وتنطلق «حرية الوقف» من جديد، ليقوم بدوره الأصيل فى بناء مؤسسات مجتمعنا المدنى وتمويلها وحمايتها من خطر الغزو الثقافى الأجنبى المتسربل بأموال المساعدات والمنح الأجنبية بحجة الأخذ بيدنا لإنشاء جمعيات ومنظمات غير حكومية، أو ما نسميه باسم «المجتمع المدنى» هذا الغزو الذى حذرنا منه مرارا وتكرارا وأسميناه «الاستعمار ما بعد الجديد» حيث إنه يجد من يمد إليه يدا بالسؤال طلبا للتمويل، وفى الوقت ذاته يمد يدا أخرى بالاساءة إلى المجتمع ويعتدى على هويته، ويسعى لتشويه هذه الهوية بطرق شتي. وفى رأينا أن رياح التغيير التى تهب على مختلف جوانب الحياة فى مصر بفضل ثورة 25 يناير المجيدة لابد أن تصل إلى نظام الأوقاف ووزارة وقانون الأوقاف فتغير ما يجب أن يتغير وتبقى على ما يجب الابقاء عليه، حتى تكون الأوقاف بحق فى خدمة المجتمع. المزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم