نود الحديث اليوم عن الفقه السياسي للشرعية والشريعة. ولنبدأ بالشرعية في الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث, انطلاقا مما ذكره عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في أوائل القرن العشرين عن أنماط الشرعية الثلاثة: نمط قائم علي النظام القانوني والمنظومة البيروقراطية والتمثيل النيابي( وهو النمط القائم في الدول الغربية أساسا), و نمط قائم علي الأبنية التقليدية للسلطة علي الأساس العائلي والقبلي أو العشائري, ونمط قائم علي القيادة السياسية للزعامة الاستثنائية أو الكارزماتية. من جهة ثانية, ظهر تحدي الشرعية الأساسي في الغرب خلال فترة مابين الحربين العالميتين من خلال النظام النازي في ألمانيا, والنظام الفاشي في إيطاليا, والنظام العسكري في اليابان, ويمكن جمعها تحت تعبير النظم الشمولية, وكانت لها شرعيتها المزعومة علي أساس إيديولوجية معينة, عنصرية بصفة أساسية. ومن هنا ظهر التقابل المعاصر بين المفهوم الحقيقي الناظم للشرعية متفرعا إلي الشرعية الثورية والشرعية الدستورية, وبين الادعاء الزائف للشرعية مختبئا من وراء نظام تسلطي أو شمولي وفق عقيدة احتوائية معينة, عنصرية كانت أو دينية أو غيرها. وفي جميع الأحوال, فإن أهم ما يجب الالتفات اليه في هذا المقام, هو أهمية التفرقة الدقيقة بين المفهوم العلمي لكل من الشرعية والمشروعية. فالشرعية, كما رأينا, مفهوم سياسي قائم علي الرضا العام, أما المشروعية فهي مفهوم قانوني قائم علي الاتفاق مع النظام القانوني والدستوري السائد. فاذا تصادمت الشرعية والمشروعية, أي إذا أصبح النظام الدستوري فاقدا لرابطة الرضا الجماهيري العام, فإن المشروعية تفقد قاعدتها السياسية وتقوم شرعية جديدة تؤسس لمشروعية أخري, أي لنظام قانوني ودستوري جديد. ويبدو أن هذا هو ما حدث بالتدريج خلال العام المنقضي; فقد تآكلت الشرعية السياسية للنظام الحاكم الذي كان يقوده( الإخوان المسلمون) في مصر, نظرا لاهتزاز ثم انهيار قاعدة الرضا العام الي حد كبير, مما مهد لانهيار المشروعية الدستورية القائمة وبدء انبثاق نمط جديد للشرعية والمشروعية في آن معا, اعتبارا من الثلاثين من يونيو2013, وهو نمط لم يزل يتلمس مواقع أقدامه, محاولا تثبيتها علي أساس الرضا العام. هذا عن مسألة الشرعية, فماذا عن مسألة الشريعة؟ هي مسألة بالغة التعقيد, وقد كانت من وراء بروز الفقه الإسلامي بمذاهبه العديدة, ثم ظهور علم أصول الفقه انطلاقا من بداياته الأولي عند الإمام الشافعي. يدور الحوار الآن حول ماجاء في( الدستور المعطل) لعام2102 بخصوص ما ورد في المادة رقم219 عن( مباديء الشريعة الاسلامية) باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع. ونشير فقط الي العبارة القائلة بالمصادر المعتبرة للشريعة في( مذاهب أهل السنة والجماعة). وقد نشير هنا إلي أن( أهل السنة والجماعة) هو تعبير اعتقادي ينصرف تاريخيا الي الأشعرية, إذ يبدأ من أبي الحسن الأشعري, مؤلف مقالات الإسلاميين, وصاحب الأثر البارز في( علم الكلام). و قد انتهي التعبير الاعتقادي لأهل السنة والجماعة, للمفارقة, إلي خصومهم من( الحنابلة), نسبة الي الإمام أحمد ابن حنبل- وخاصة ابن تيمية وابن القيم. لذلك, تبدو الإشارة الي( أهل السنة والجماعة) في صلب الدستور المعطل, مثيرة للإبهام الشديد باعتبارها تحيل إلي دلالة قد تحمل محملا طائفيا, وقد توظف في سياق المواجهة الدائرة رحاها, بحسن نية أو سوء نية, بين( السنة) و(الشيعة) بل وداخل( السنة) أنفسهم. وتهمنا الإشارة بصفة خاصة في هذا المقام إلي مصادر التشريع المعتبرة في( مذاهب أهل السنة والجماعة), التي ورد ذكرها في المادة219, اتباعا للاتجاه السلفي الراهن, والتي تتدرج, كما هو معلوم, من الكتاب والسنة إلي الإجماع ثم الاجتهاد معبرا عنه بطرق متعددة كالقياس والاستحسان والاستصحاب والعرف والمصالح المرسلة. وقد تمت محاولة تقنين الاجتهاد, منذ الإمام الشافعي, من خلال اقتراح ضوابط محددة, وهو ما تم فهمه خطأ علي أنه تعبير عن إقفال باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي. والمهم هنا أن الخبرة المعاصرة التي نحيل إليها كعامل مساعد في فهم وتفسير وتأويل النص الديني, تشير إلي أهمية النظر إلي الإجماع, المعبر عن التوافق المجتمعي أو مايطلق عليه بالتعبير الشائع الآن: الإرادة الشعبية. وعن طريق فهم الإجماع بالدلالة المعاصرة المتفقة مع أصول الشرع قطعية الثبوت, أي الإجماع التوافقي المعبر عن الإرادة الشعبية, يمكن فهم الاجتهاد كأداة عقلية للحوار المجتمعي القادر علي سبر أغوار القضايا محل النظر, من خلال الشوري الملزمة, معبرا عنها بدلالة الآليات الديمقراطية الحديثة, وأبرزها التمثيل النيابي والاستفتاء العام بل وأيضا: الهبة الشعبية العارمة, كما ظهرت في ثورة25 يناير2011 ثم في30 يونيو.2013 وبهذا كله, يندمج الإجماع والاجتهاد في عملية واحدة, تنصرف في النهاية إلي مجموع الوسائل الفعالة التي يلتمس من خلالها معاونة الإرادة الشعبية علي الوصول الي لب المصالح الجماعية المقررة. وهذا ما يمكن الوصول إليه, ولو بصفة مبدئية, من التأويل المعاصر لمصادر الشريعة. لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى