كمال حبيب أوضحنا أن عقيدة أهل السنة والجماعة وهم من يمثلون بتعبيرنا المعاصر " التيار الرئيسي " في الخبرة والحضارة الإسلامية ، فهم أعدل الناس في مواقفهم العقدية يقولون بأن العمل مع الإيمان لكنهم لا يذهبون مذهب الخوارج في تكفير من يترك بعض العمل من عصاة المسلمين ، وهم يشهدون للموحدين وأهل القبلة بأنهم من عموم المسلمين لا يستبعدونهم من الإسلام ولا يحكمون عليهم بقسوة كما يفعل الخوارج ، وهم يقولون بالإيمان بالأسماء والصفات بدون تشبيه أو تجسيم أوتأويل يخرج صفات الله عن معناها ، فهم كما علي مذهب إمام أهل المدينة الإمام مالك ، يعلمون الصفات والأسماء ومعانيها ويكلون كيفيتها إلي الله علي مايليق به ولكنهم يؤمنون بها ، وهم عدل بين كل الفرق وعقيدتهم معروفة مدونة بسيطة لا لبس فيها ولا غموض ، ولهم جدالاتهم مع الفرق الأخري تكون من هذه الجدالات علم الكلام أو الفلسفة الإسلامية التي تدرس اليوم للمتخصصين في علوم الأديان المقارنة . ولكن البحار الواسعة من العلوم الإسلامية جاءت في التفسير والفقه والحديث واللغة وأصول الفقه ، فالمذاهب الفقهية هي طرق ومناهج في فهم الشريعة والفقه الإسلامي وكل مذهب أسس لنفسه قواعد للفهم نسميها نحن في العلوم الاجتماعية " اقترابات " approach وقواعد كل مذهب مبنية علي أسس متينة وقوية من التمكن العلم الاستثنائي الذي لا يمكن تكراره . هذه المذاهب الفقهية هي التي كونت علوم الإسلام ومدارسه ، وكانت كلها تستند إلي النص ( الكتاب والسنة ) ومارس العلماء القياس علي اختلاف في طرائق كل منهم ، فمن توسع في القياس والرأي كالأمام أبو حنيفة رحمه الله كانت له قواعد متشددة في قبول الرواية ، ومن كان متحفظاً في استخدام الرأي والقياس استند إلي طرق ووسائل أخري رآها مفضية إلي تمكين النص فاستخدم مثلا المصالح المرسلة والاستحسان مثل الإمام مالك رحمه الله والإمام أحمد فهما أكثر من استخدم المصالح المرسلة والاستحسان . وكل المذاهب استخدم العرف والعادة كمحكمات في فهم الشريعة ، كما استخدموا السياسة الشرعية وقواعد" تدارؤ المصالح والمفاسد " وهي قواعد واقعية وعلمية وعقلية وفطرية . وأنا أقول بالتمييز بين الاجتهاد الفقهي " والاجتهاد السياسي " فالاجتهاد الفقهي أقوي حجية من الاجتهاد السياسي " وسأضرب لذلك أمثلة " خلافات الأئمة في مسائل الفروع كالقراءة خلف الإمام " هي اختلافات معتبرة من جانبي كباحث معاصر وليس لي معها كثير نظر إلا مجرد الفهم والفقه والنقل ، ولكن القضايا المتصلة بالواقع السياسي مثل كتابي أبويعلي والماوردي في " الأحكام السلطانية " يمثلان فقط لدي مجرد تعبير تراثي عن طريقة تفكير المسلمين في القرن الخامس الهجري حول مسائل السلطة والخلافة وشكل الإدارة في الدولة وغيرها ويمكننا الاستناد إليهما في بعض القضايا المعاصرة ولكنهما لا يمثلان لي كباحث في العلوم الاجتماعية وكحركي مسلم أي إلزام بالمعني الفقهي الذي أشرت إليه سابقا . بل إنني اقول إنه إذا كان الفقهاء من أئمتنا كانوا يستخدمون أدوات مثل القياس والإجماع لفهم النص بمعناه الواسع في القضايا الفقهية ، فإننا نستخدم أدوات مثل المصالح المرسلة والعرف والعادة والاستحسان كأدوات أساسية لفهم العلاقة بين النص والواقع ، في معرفة الواقع المتغير اللامتناه ستكون الأدوات التي اعتبرها الأصوليون خلافية أو فرعية لدي الفقهاء ، هذه الأدوات نفسها ستكون هي الأساسية . الاجتهاد السياسي يعمل في فضاءات بطبيعتها متغيرة وخلافية وأشبه باجتهادات المتخصصين واختلافاتهم في قضايا عديدة يومية ومن ثم فلا يجوز أن نعمل في الحكم عليها أدوات المسائل العقيدية والفقهية المجمع عليها ، وبالطبع من يجتهد في السياسة هو متخصص وله رؤية ونظرة ثاقبة ولكن الخلاف حول تقدير هذه الرؤي يحتاج إلي روح دعني أقول " أنها مدنية " يمعني أنها متسامحة لأبعد الحدود ، لا ترفع في وجه من يقوم بها أسلحة المغاضبة والمناكفة ومفاهيم الاستبعاد والتشدد ، إن أكثر الناس تمسكا بالنصوص وهو الإمام مالك والإمام أحمد كانوا أكثر من استخدم المصالح المرسلة والعادة والاستحسان لتوسيع قدرة النص علي التعامل مع الواقع والتفاعل معه . مشكلة إخواننا أنهم لم يقرأوا تاريخ المذاهب ولا أصولها ولم يعرفوا السياقات الاجتماعية التي نما فيها الفقه الإسلامي والشريعة وهو ما نطلق عليه " علم الاجتماع " الفقهي والشرعي . [email protected]