نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد الكبير بالمحلة    جامعة قناة السويس تنظم تدريبًا لتأهيل طلابها لسوق العمل    مقارئ وندوات علم.. أوقاف جنوب سيناء تنفيذ البرنامج الصيفي للطفل داخل 60 مسجدا    الإسكان: زراعة 12 ألف شجرة مثمرة ضمن مبادرة الرئيس «اتحضر للأخضر» (صور)    محافظ أسيوط يوجه الإصلاح الزراعي بتكثيف منافذ السلع المتنقلة في الميادين    تكثيف أعمال النظافة بالوحدات المحلية بالزقازيق    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة بالأسواق (موقع رسمي)    مدير مستشفى كمال عدوان يحذر من كارثة تواجه شمال غزة    موقف وسام أبو علي من مباراة الأهلي والزمالك    وزيرة التضامن: استمرار عمل الخط الساخن لعلاج مرضى الإدمان خلال عيد الأضحى    إصابة 10 أشخاص في حريق عقار بالوراق    البوكس أوفيس لأفلام عيد الأضحى، ولاد رزق 3 وأهل الكهف واللعب مع العيال    يوم التروية في الحج.. أهم الأعمال المستحبة والمناسك    وزير الصحة يكلف بالالتزام بجداول نوبتجيات العيد للفرق الطبية والتعامل مع موجة الطقس الحار    وزيرة التخطيط تتابع خطوات إنشاء الصندوق السيادي لقطاع الصناعة    تشكيل ألمانيا المتوقع أمام أسكتلندا.. هافرتيز يقود الهجوم    الإسكان: بدء التجارب النهائية لتشغيل محطة الرميلة 4 شرق مطروح لتحلية مياه البحر    رئيس جامعة حلوان يهنئ السيسي بحلول عيد الأضحى المبارك    إخماد حريق داخل منزل فى العياط دون إصابات    32 ألف كادر طبى لخدمة الحجاج.. ومخيمات عازلة للضوء والحرارة    إصابة شخصين إثر انقلاب دراجة بخارية بالمنيا (أسماء)    وزيرة التضامن: استمرار عمل الخط الساخن لعلاج مرضى الإدمان خلال أيام عيد الأضحى    قصف إسرائيلي وسط بلدة الخيام جنوبي لبنان    القاهرة الإخبارية: استشهاد فلسطينى فى قصف لزوارق حربية إسرائيلية بخان يونس    المجر: «الناتو» يعمل على إنشاء 3 قواعد عسكرية ضخمة لإمداد أوكرانيا بالأسلحة    يوم التروية.. أفضل الأعمال المستحبة والأدعية المستجابة    الحجاج يرتدون ملابس الإحرام اليوم.. والبعثة الرسمية: حجاجنا بخير    أزهري يوضح موعد ذبح الأضحية.. والصيغة الصحيحة لتكبيرات العيد    الأغذية العالمي: موسم الأمطار يعرقل تقديم الدعم بالسودان    «غرفة أزمات مركزية».. خطة وزارة الصحة لتأمين احتفالات عيد الأضحى وعودة الحجاج    إجراء مهم من «هيئة الدواء» للتعامل مع نواقص الأدوية خلال عيد الأضحى    كاميرا القاهرة الإخبارية تنقل صورة حية لطواف الحجاج حول الكعبة.. فيديو    «لن نراعيه»| رئيس وكالة مكافحة المنشطات يُفجر مفاجأة جديدة بشأن أزمة رمضان صبحي    الجيش الأمريكى يعلن تدمير قاربى دورية وزورق مسير تابعة للحوثيين    الجيش الروسى يعلن إسقاط 87 طائرة مسيرة أوكرانية خلال 24 ساعة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 14-6-2024    صفارات الإنذار تدوي في كريات شمونة بسهل الحولة والجليل الأعلى شمالي إسرائيل    سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 14 يونيو 2024 مقابل الجنيه المصري بالتزامن مع إجازة البنوك    إنبي: نحقق مكاسب مالية كبيرة من بيع اللاعبين.. وسنصعد ناشئين جدد هذا الموسم    هاني شنودة يُعلق على أزمة صفع عمرو دياب لمعجب.. ماذا قال؟    للمسافرين.. تعرف على مواعيد القطارات خلال عيد الأضحى    تنسيق مدارس البترول 2024 بعد مرحلة الإعدادية (الشروط والأماكن)    مصطفى فتحي يكشف حقيقة بكائه في مباراة سموحة وبيراميدز    باستعلام وتنزيل PDF.. اعرف نتائج الثالث المتوسط 2024    حاتم صلاح: فكرة عصابة الماكس جذبتني منذ اللحظة الأولى    سموحة يرد على أنباء التعاقد مع ثنائي الأهلي    طريقة عمل الفشة في خطوات سريعة قبل عيد الأضحى.. لذيذة وشهية    نجم الزمالك السابق: خلصنا مع أحمد ياسر ريان.. والتعاقد في هذا الموعد (فيديو)    الحركة الوطنية يفتتح ثلاث مقرات جديدة في الشرقية ويعقد مؤتمر جماهيري    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 14 يونيو: انتبه لخطواتك    هشام قاسم و«المصري اليوم»    محمد محمود عبد العزيز يحتفل بعيد ميلاد شقيقه    مودرن فيوتشر يكشف حقيقة انتقال جوناثان نجويم للأهلي    تحرك نووي أمريكي خلف الأسطول الروسي.. هل تقع الكارثة؟    يورو 2024| أصغر اللاعبين سنًا في بطولة الأمم الأوروبية.. «يامال» 16 عامًا يتصدر الترتيب    مستقبلي كان هيضيع واتفضحت في الجرايد، علي الحجار يروي أسوأ أزمة واجهها بسبب سميحة أيوب (فيديو)    وكيل صحة الإسماعيلية تهنئ العاملين بديوان عام المديرية بحلول عيد الأضحى المبارك    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 14 يونيو 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شبح السيدة العجوز
نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 09 - 2013

تبا للنساء........ ينصبون مصيدتهم حتي يوقعوا بالرجل كجرذ تافه. أساتذة فن الغواية, واساطين التحذلق والتمكن والنبذ...
تعبر بهن النهر كسلحفاة ساذجة, وما أن توصلهن إلي الضفة حتي تلدغك الحية دون أن تمنحك جزاء أو شكورا...
الحضارة رجل, أما الحياة نفسها فامرأة.
أمن دوما أن النساء يصلحن لحكم العالم, فلم يجن حكم الرجال سوي الموت والاقتتال.
تهب الأنثي الحياة والدفء والخصوبة, أما الرجل فيهب المعني والرؤية.
الحب أنثي قبل كل شيء, أما الرجل فدينه العمل.
فليعترف أنه لايفهم النساء.
مع أول خطأ منك تنسي رصيدك السخي فتكشر عن أنيابها, ولايشفع لك عشرات الألوف من عبارات العشق والتدلل والثناء, لافارق أن تكون أنثاك مني أو فاتن أو شيرين, فالأسماء ضيعتنا, والوجوه خذلتنا, والأماني ابتلعتنا كرمال ناعمة لا تعرف الشفقة.
الآن فقط يعي عبارة تولستوي التي رددها مرارا: لن تستطيع معرفة حقيقة أي امرأة إلا بعد أن تتأكد أنهم أغلقوا عليك باب قبرك بإحكام.
تتشابه الطباع والوجوه: فتحية بطلة النداهة, أو جمالات بطلة غصن الزيتون, أو بسيمة عمران بطلة الطريق, أو أليس خائنة العقاد وذبابة لوحته البغيضة.
وحدها زهرة بطلة ميرامار تظل استثناء في مقام الورع والبهاء والنقاء.
منذ أن غادر الإسكندرية إلي القاهرة أزمع أن ينسي تجربته المؤلمة معها.
كان الحل الوحيد أن يطلب نقله إلي فرع المؤسسة بالقاهرة عله يبرأ من جرحها...
كان حذقه مكنه أن يقتنص أجمل طالبات الدفعة, في السنة التمهيدية والعامين الأولين من سنوات الجامعة بعدها تقلب بين تجارب عاطفية مبتسرة أو متسرعة في الفرقة الثالثة بهرته بقوة شخصيتها وسجلها العاطفي ناصع البياض.
هي نفسها كانت تشعر بالزهو والغبطة وهي تقتنص شاعر الكلية, أكثر طلاب كلية الهندسة إثارة للاهتمام أسرها بمعارضته اللاذعة للنظام, اصطدامه الدائم مع أجهزة الأمن وإدارة الكلية, حفظت ألسن الزملاء قصائده الثورية الغاضبة والمتمردة رسا قاربه في مينائها, ولم يستغرقا وقتا ليتحول خاتم الارتباط من اليد اليمني إلي اليد اليسري.
ذلل أبوها الأمر عندما خصص لها شقة في عمارته بحي جليم, المسافة من الأنفوشي حيث يقطن إلي جليم اختزلت سنوات قلقه بفضل عمها.. عينا في المؤسسة الحكومية نفسها ولكن في ادارتين مختلفتين.
انتظم إيقاع حياتهما, وبدأ يعرف طعم الاستقرار أخيرا.... أمدته ولادة طفلتهما بمبرر جديد للمقاومة, ومعني إضافيا للحياة.... هبت العاصفة عندما ترأست إدارته الدكتورة دولت.
مطلقة فاتنه في منتصف العقد الخامس تجمع شخصيتها بين تناسق التقاطيع, ورهافة الغد والنضج العقلي... مديرة غير عادية تحمل درجة الدكتوراه من كندا في هندسة التآكل... هل كانت أسطورة عصمت فهمي بطلة الفيلم القديم التي جسدتها الفنانة شادية تتكرر؟
من أطلق شرارة الغيرة في الحطب الجاف؟..... لاحظ تردد زوجته المفاجئ علي إدارته. انتحالها اعذارا واهية لتقتحم مكتبه في أوقات مختلفة. بدا أنها تستشعر خطرا ما. وسمت العصبية والحدة في حوارهما اليومي في المنزل انتقلت من التلميح إلي التصريح.
شاع في المؤسسة أسلوب الدكتورة دولت في الإدارة. أحيت روحا خامدة بين العاملين معها, ونجحت في أن تضفي لمسة أسرية علي مرؤوسيها...
لم ينتبه في البداية إلي رد الفعل المتوتر والحاد علي زوجته كلما جاءت سيرة المديرة من حفل إلي رحلة إلي مسابقة انهمر مطر مبادراتها. كفت الألسن المتطفلة عن الغوص في سيرتها العاطفية, وتنامي التقدير لكفاءتها الإدارية بموضوعية حقيقية.
هو نفسه لم يستطع أن يحدد نوع العلاقة التي تربطه برئيسته, يتأرجح ما بين الإعجاب والاحترام, أخطأ مرة في مناداة زوجته باسمها, وناداها ب دولت فأقامت الدنيا وهدتها.
في المواجهات القليلة التي جمعت زوجته برئيسته لم يفته بريق الكراهية في عين الأولي. بدت عبارتها باردة ومبتورة, سرب حاقد مجهول إلي زوجته تلميحها عن إعجاب خفي بينه وبين المديرة.
الأنفجار كان وشيكا, ومن وراء الأكمة الخاملة اختبأت العاصفة الكاسحة.
عندما أقامت المديرة حفلا في الإدارة بمناسبة عيد ميلاده, كعادتها مع زملائه, كانت هديتها الشخصية له اليد التي حركات فتيل الأمان, فانفجرت القنبلة, أصرت زوجته علي أن يعيد الهدية أو يودعها صندوق القمامة احتدام المواجهة أدي بها إلي أن تنقض علي الهدية وتلقيها من النافذة لم يتمالك نفسه, ولطمها علي وجهها للمرة الأولي علي مدي علاقتهما.
قصدت مسكن أسرتها عندما قصدها غادر المسكن إلي الكورنيش. أفضي بحزنه إلي البحر, مرت ساعات في وقفته, عندما عاد لم يجدها, صرخت حبيبة الأمس وفاتنة الكلية في وجهه بعبارة النهاية:طلقني
باءت بالفشل كل جهود الترضية ومني المتوسطون بالصلح بينها بالإخفاق, أذعن بعد رفض لجموحها للنساء قدرة عجيبة علي هدم المعبد فوق رؤوس الجميع. تساءل متحيزا: كيف يجتمع الدهاء والجموح والغباء معا في جسد واحد؟
عندما تم الانفصال, لم يكن هناك طريق سوي الانسلاخ.
حاولت مديرته وزملاؤه إثناءه عن طلب النقل إلي القاهرة.
بتر الألم. حاول تحديد مصدره, افتقاده طفلته أم اخفاق قصة حبه الطويلة. بدا مصير طفلته مجهولا.
الرجل الذي كان يدعي الحذق في فهم الجنس الأنثوي بدا تلميذا بليدا. هل خبر عالمهن حقا؟ ردته شخصية التجربة إلي البداية, وبدا أن الطريق طويل أمامه للفهم.
نصحه أبوه: غير العتبة.
ورثت أمه لحاله: لا تأمن غدر النساء
وهدأه صديقه الأقرب: لا تختزل امرأة نساء العالم أجمعين. حدق في وجه مديرته وهو يودعها متسائلا في سره: هل تتشابهون جميعا ؟
سنفتقدك جميعا.
وأنا بالمثل.
استراحة محارب أم هروب ؟
فلنقل إعادة ترتيب الأوراق.أحتاج إلي الفهم.
أنت إسكندراني, فلا تنس أن النساء كالبحر موجة تمحو موجة.
يبدو أن هذا زمن العشاق المهزومين.
لكن العالم ليس امرأة وحيدة فلا تستسلم, عالج خيبة الحب بحب جديد.
لا متسع لحب أو امرأة جديدة الآن. ربما لا أصلح للحب بعد ذلك
مع رفضي لابتعادك لأن الإدارة تحتاج كفاءتك, إلا أنني أفهم حاجتك النفسية إلي النأي.
سأفتقدك بالمثل. لست مديرة عادية من السهل أن تتكرر.
تصافحا في حرارة, ولاحظ شعاع التعاسة والمواساة في حدقتها. دس أبوه مبلغا محترما في جيبه, قائلا: ستحتاج مصاريف كبيرة أوصته أمه بسرعة العودة: حضني في انتظارك يا ولدي ودعه صديقه علي محطة القطار معانقا أياه في حرارة: هي الخاسرة, لن تجد رجلا مثلك:
كر شريط حياته أثناء رحلة القطار.
حاول البحث عن ثغرة الدفرسوار في علاقتهما المنهارة, تلك الثغرة التي نفذ منها الفشل والريبة إلي حياته قصد فندقا قريبا من ميدان الفتح. يقع فرع الشركة في ميدان الحجاز بمصر الجديدة. اهتدي إلي الفندق من شبكة الانترنت, لا تتحمل ميزانيته الإقامة في الفندق أكثر من أسبوع.
التقط هاتف سمسار صادفه مكتوبا علي جدار في الشارع عندما طلبه طمأنه السمسار:
لدي طلبك, شقة مفروشة وقريبة لن تكلفك كثيرا.
تقع الشقة في منطقة تريومف. غرفتان واسعتان داخليتان تتصدرها صالة مستطيلة فسيحة بالطابق الثالث. بدا الأجر استثنائيا. فقد السمسار حصته. حاول أن يخمن شخصية صاحب الشقة ولكنه فشل. بدا الأثاث كلاسيكيا ويعود إلي عقود مضت, لم تكن هناك صورة ملونة واحدة, كلها صور تنتمي إلي زمن الأبيض والأسود. الاكسسوارات عتيقة أثرية, أمهله السمسار يوما للانتقال حتي يرسل من ينظفها من الغبار الذي يملأ الجنبات والهواء والأثاث.
ستسلم الإيجار لحارس العقار كل أول شهر ويعطيك الايصال. ارتاح لصلاحية الأجهزة الكهربائية بالمسكن. صناعة وطنية قديمة تنتمي إلي زمن السبعينيات غالبا, رمق صورة فاتنة عاقدة الذراعين مستندة إلي مقعد في تحدق الكاميرا سأل: من تكون؟
المرحومة في شبابها. أيام يا أستاذ
نقل حقيبته من الفندق في اليوم التالي. كان قد قصد فرع الشركة ففاجئه هدوؤها مقارنة بمقر الإسكندرية الصاخب. استقبلوه بود لا يخلو من ارتياب. هل سيقهر فشله العاطفي هنا ؟
كان مديره الجديد حاد القسمات, محافظا لكن لا يخلو وجهه من طيبة استعاد وجه شفيق نور الدين في فيلم شادية إياه. في ليلته الأولي بالمسكن أطفأ النور تماما كما يفضل. كانت مطلقته تخالفه مسلكه فتصر علي اضاءة الغرفة خوفا. كان يستسلم لها, ويخبئ رأسه بين وسادتين. لاحظ مسجلا متربا علي الكومدينو.
أدار سهرة أم كلثوم اليومية علي موجةF.M شاق أن تكون أغنية ظلمنا الحب بعينها. انسحب مقهورا إلي الموت الأصغر. عندما ظهر شبحها لأول مرة كان التوقيت بين الثانية والثالثة صباحا شعر بجفاف حلقه. عندما فتح عينيه ليشرب لمحها. أوجس خيفة. شعر بتوتر خلاياه, كانت تقف في منتصف الغرفة ترمقه باهتمام ترتدي ايشاربا غامقا تتدلي من تحته خصلة ثلجية. ترتدي روبا كحليا. تتدلي نظارتها فوق أرنبة الأنف. تنتعل خفا فاتحا لم يتبين لونه, وتستند علي عصا خشبية بنية.
سكنه رعب نفذ في أوصاله. بدا غير مصدق. فجأة رفعت عصاها في الهواء وطرقت السقف ثلاث طرقات. تجشأ خوفه وحاول أن يضيء الأباجورة. في اللحظة التي اضيئت الغرفة كانت قد اختفت هل كان يحلم؟ بدا يقف في منتصف المسافة بين الخرافة والوعي تكرر المشهد في الأيام التالية, وفي الساعة وقتها. بالتكرار قلت مساحة خوفه وبدأ يعتاد المشهد. سوف يدمن ظهورها المخيف في الأيام التالية.
عندما هاتف السمسار لم يجبه. سلم الكواء ملابسه المغسولة وعندما سأله عن عنوانه أشار إلي البناية البعيدة. الطابق الثالث. أجابه الرجل لفوره: شقة المرحومة.
عندما قصد الحلاق علي الرصيف المقابل, تعارفا. أهلا. أنت جديد في المنطقة. استدرجه في الكلام حتي أشار إلي مسكنه. لاحظ تصلب وجه الرجل في المرآة المقابلة, وتوقف المقص في الهواء, وبدا توتر الرجل.
تقصد شقة المرحومة. طلب من حارس العقار أن يمر عليه لشراء بعض المستلزمات. تذرع الرجل بتوعك ركبته.
عندما تأخرت ثيابه قصد الكواء وعاتبه. أجابه الرجل بعد حرج: يخاف الصبي صعود بنايتكم. أحس أنهم يخفون عنه شيئا. اشتاق إلي حضن أمه, حنو أبيه, ووجه طفلته كان حريصا علي أن يطرد وجه مطلقته كلما لاح له, كان حريصا علي أن يرسل حوالة باسمها, ومصاريف طفلته فور تسلمه راتبه ابتاع بعض الأشياء, وعندما هم بإغلاق المصعد اقتحمت عاصفة انثوية المكان. حسناء طاغية سبقتها رائحة عطرها النفاذ بشعرها البني الثائر المنسدل علي كتفها. بدت متحرجة ولكنها تظاهرت بالنظر في هاتفها المحمول. عندما غادر المصعد راقب توقفه في الطابق التالي, وسمع صوت إغلاق الباب, خمن أنها تقطن فوقه.
تكرر ظهور شبح السيدة العجوز في نفس الموعد. بدأ يألفها واختفي رعبه الأول, حرص علي العودة في نفس التوقيت في اليوم التالي, ووقف بعيدا عن البناية حتي هبطت عاصفة الأمس من سيارة الأجرة, لهث سريعا حتي دخل البناية في نفس التوقيت حرص علي اقتحام عينيها بعينيه. يشده فيها نداء غريب. لم يستطع تحديد بوصلة اهتمامه وأن لم يخف انجذابه إليها. في المرة الثالثة كانت تهبط من سيارة رجل. خمن أنه زوجها فتلكأ حتي استقلا المصعد وتعلل للحارس بحاجته إلي شراء بطاقة شحن.
من الأستاذ الذي صعد مع السيدة الآن؟
انه جارك, في الشقة التي تعلوك.
في اليوم التالي زاحمهما الصعود في نفس التوقيت. حياهما بتحية محايدة بدأ الرجل جلفا. أجابه بإيماءة من رأسه. عند زيارته التالية للحلاق استدرجه في الكلام.
منطقة مسلية, ولكن الشقة.
هل ظهرت لك؟
من؟
تراجع الرجل, ولكنه أعاد حصاره بالأسئلة حتي وقع في كمينه.
حسبتك تعرف. ماتت صاحبة الشقة قتيلة
ألقي الرجل بقنبلته في وجهه.
هل قبضوا علي القاتل.
لا سمعت أنها قيدت ضد مجهول.
ربط تفاصيل متفرقة في نسيج محكم تجنب صبي الكواء المرور علي شقته. مراوغة حارس العقار من الصعود إليه. القمامة كانت تتراكم علي بابه حتي يتخلص منها في الخارج لتجاهل عامل القمامة لشقته, الغريب أنه صادف الرجل مرارا أثناء دخوله البناية بينما كان هو في الطريق إلي عمله.
قابل فاتنته الآسرة مرات بمفردها, وأحيانا برفقة زوجها أزداد نفوره فيه.
بهرته ساعته البيولوجية إلي الاستيقاظ في نفس الموعد في الليل.
كانت العجوز تطيل النظر إليه مستندة إلي عصاه. لم يعد حريصا علي أطفاء النور وتعود مراقبتها له. شعر نحوها بعطف ورثاء أي مجرم فعلها, بدت السيدة واهنة تتجاوز هيئتها السبعين من العمر.
ينهض من رقدته مستندا إلي مسند السرير..
تعود التدخين منذ أن ارتحل إلي القاهرة..
اشتري عدة شرائط لأم كلثوم, ولكنه اكتفي بإدارة شريط ظلمنا الحب يديره عند لحظة الكري ثم يسحبه النوم إلي حب عميق في ثلث أو منتصف الأغنية.
أنا وأنت اللي كنا زمان أحب أثنين وأحن اتنين.
يعترف أن مطلقته تسكنه. لم يعرف الحب إلا معها, وعلمها بدوره أبجدية العشق ولغة البوح.. أمدته ولادته طفلته بسبب آخر للهوي.. وضاع الحب ضاع مابين عند قلبا وقلب ضاع.. أكان تصلبها تمرد العاشق أو ثأر المرأة لكرامتها من امراة أخري مديرته الحسناء تزاحمها حب رجلها.. يزن مشاعره تجاه مديرته فلا يراها تتجاوز التقدير والإعجاب بنموذج المرأة القوية الذكية الحازمة.. تمتلك ما يفتقده في امرأته, ولكنها لا تحل محلها في قلبه. أما جارته فليعترف أنه فحسب يشتهيها. ثمة جموح بري, أو أنوثة طاغية تشبه السيل تجتاح السدود والحواجز.. يتصلب تماما عندما يرمقها, وعندما يقترب من حيزها في المصعد تجتاحه رغبة في الانقضاض.
ارتاح لتحديد مشاعره تجاه الثلاث.
توقظه ساعته البيولوجية فيعي منتبها لحضور الشبح. يشعل سيجارته يحدق فيها بلا خوف. بدأ يألفها ويتحدث إليها. يفضفض لها بعذاباته. يعترف أمامها بأنه يفتقد حضن امرأته وملمس صغيرته.. انظري إلي صورتها, يمد يده تجاه صورة الطفلة الموضوعة في إطار مذهب علي الكومدينو ألا تشبهني, يقاوم حنينه إلي طفلته, يرمقه شبح العجوز في صمت. عندما ينتهي من الثرثرة, بدا عليها أنها تتعاطف معه. تفهمه. تعي عذاباته تماما. فجأة ترفع عصاها وتدق السقف في عصبية ثم تختفي.
تعود أن يقطع مسافة من التريض في المنطقة. يتجه شمالا إلي ميدان الحجاز, أو يمضي جنوبا حتي ميدان صلاح الدين ومنطقة الكوربة, أو يتجه غربا حتي الميريلاند. لا يتحمس كثيرا للاتجاه شرقا حتي سور الكلية الحربية.
يمشي حتي تتعب ساقه, ويعود ليتناول عشاء خفيفا من الجبن القريش والزبادي وربما الفاكهة. يجلس أحيانا علي المقهي يراقب وجوه الناس. يحاول قراءة القصة المختبئة وراء كل وجه عابر....
ربما تكون قصص الآخرين هي قصتك نفسها, أو تكون قصتك بداية الخيط لقصص الآخرين
يتلقي مكالمات متباعدة من مديرته السابقة, وصديقه الوحيد, ولكن يكاد والداه يحدثاه يوميا أو يبادر بالاتصال. تبدو أمه أكثر قلقا وتوجسا, أما أبوه فلا يفتأ يذكره: تمدنا المحن بصلابة يا ولدي, فاصبر.
يتسقط أخبارا حول طفلته بطريقة مراوغة, وقد عزم علي أن يتجلد لمساحة من الوقت فيتعالي علي حرمانه من حبيبة الأمس وطفلته, وأن يبدو غير مكترث بالأمر.
يستمع إلي أغنيته المفضلة فتفاجئه موهبة بليغ حمدي. من أي عجينة إبداع صدرت موسيقاه. يحاول التركيز علي اللحن مجردا من الكلمات والإيقاع متعرفا علي جنون وألمعية هذا الملحن. يقول لنفسه يخرب بيتك يابليغ.. يبدو مهووسا به.
كان العمل خفيفا لا يتجاوز الإطلاع علي تقارير فنية والتوقيع عليها.
أجل التفكير في المستقبل. ينشغل حينا بالتلصص علي جارته الحسناء, لا يفسر نفوره من سمت زوجها, ميز رائحة عطرها مندهشا في المصعد بعد أيام, بعد أن ضبط إيقاع صعوده مع عودتها. يشمه أحيانا منفردا في المصعد في أثناء خروجه الليلي فيميز مرورها في الحيز.
ألفته, وألفاه تدريجيا فأصبحا يتبادلان تحية المجاملة, إلا أنه لاحظ مندهشا في يوم تال, وكان جسد زوجها القوي يحجب ليونتها المستوحشة انها ترتدي قلادة مشابهة لتلك التي يرتديها شبح العجوز. قلادة القرصان الذهبية تتدلي من رقبتها الطويلة الفاتنة.
سأل شبح العجوز ذات ليل: ماذا تخبئ الأيام لي؟
يتبادلان دقائق الصمت الطويل لم يعد يجفل عندما يصحو فجأة في قلب الليل فيراها تحدق فيه. لا يفزعه إلا تلك الدقات الثلاثية بعصاها القوية تقرع سقف الغرفة قبل الاختفاء.
لو أفهمك لو تتحدثين مرة لماذا تركوك وحيدة؟
كون مكتبة صغيرة من بائع الكتب الذي يتوسط كشكه ميدان سانت فاتيما. تصاحبا وأصبح الرجل يقترح عليه كتبا, أو يكلفه بالبحث عن كتب بعينها.
يظل يقرأ حتي النوم, وهو يستمع إلي أغاني الست, ولكن عندما يحاصره النوم بشباكه يدير ظلمنا الحب.
كانت أرقه أنه توقف تماما عن كتابة الشعر العامي.. أجف معين الإبداع أم هو احتباس مؤقت؟
قاوم مرارا رغبتها في أن يضرب أرقام امرأته السابقة ليسمع صوتها: سألته مديرته في اتصالها الأخير.
ماذا يحدث للبحر إذا استدار الموج إلي الاتجاه الآخر, وعكس خط سيره؟ هل تلمح إلي أمر ما.
ومضة الإلهام برقت في عقله تماما كان عائدا من الإسكندرية من سفرته الأولي منذ ارتحاله إلي القاهرة كان قد مضت أربعة أشهر كاملة, وعندما تزامنت عدة عطلات في أسبوع واحد فكر في العودة إلي مدينته المفقودة.
همس صديقه في أذنه: سمعت أن أحدهم تقدم إلي مطلقتك؟
بدا الأمر غريبا, وأدرك لأول مرة أنها أصبحت لا تنتمي إلي عالمه. همست أمه في أذنه وهو يجلس في حجرها ضاما إياها في حنو:
عندي لك عروس برقبة التي لا تسمي.
سأله أبوه منفردين في الشرفة يحتسيان الشاي:
ألن تفكر في المستقبل؟
الوقت لا يزال مبكرا يا حاج.
سيبوح للبحر بعذاباته. سيمر علي الإدارة ليقابل زملاءه القدامي. ستحتفي المديرة بقدومه وتقدم له حلوي فاخرة مع فنجان القهوة. الومضة برقت كإلهام في أثناء عودته بالقطار, عطية من السماء لم يستعد لها تصيغ هذه الإشراقات مسار حياتنا. بينما كان مغمض العينين مستغرقا في تأملاته بالقرب من طنطا. انتفض علي المعني الذي كان مختبئا في مكان قصي مجهول.
تقف العجوز تدق السقف بعصاها وبجوارها جارته الحسناء. وهي لأول مرة ما كان محجوبا. كانت القلادة عينها تتدلي من الامرأتين. نفس القلادة رأس القرصان الذهبية. كانت العجوز تدق السقف غاضبة تشير إلي مكان القاتل لم يلتقط الإشارة مبكرا. قتلها زوج الحسناء البغيض إلي نفسه, وسرق القلادة من بين ما سرق, وكانت امرأته تخفيها تحت ملابسها في أثناء الصعود والنزول.
ورقة صغيرة خطها علي حاسوب الشركة لتخفي خطة وجهها إلي رئيس مباحث مصر الجديدة, وألقاها في البريد بلا توقيع.
أعرف قاتل العجوز التي كانت تقطن بالبناية رقم(...) العام الماضي بشارع(...) إنه جارها الذي يقطن بالشقة التي تعلو شقتها, وسوف تجدون لدي حلي زوجته قلادة مسروقة من حليها ذي رأس القرصان الذهبية.
بعد أيام صحا علي جلبة بالبناية. كان الوقت فجرا عندما اقتادت الشرطة جاره وزوجته وسط دهشة الجيران.
في نفس الليلة اختفي شبح العجوز, ولم يعد يظهر له بعد ذلك.
في اليوم التالي كتب قصيدة جديدة بعد توقف طويل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.