aللفيلسوف الألماني العظيم هيجل(18311770) عبارة جميلة يقول فيها إن كلا منا هو ابن عصره وربيب زمانه, وبالمثل يمكن أيضا أن نقول عن الفلسفة إنها عصرها ملخصا في الفكر. ., أصول فلسفة الحق ص88]. وما يقال عن الفلسفة يقال عن العلم, فالعالم هو ابن مجتمعه فهل يمكن أن نقول ان ثقافتنا تنتج عالما..؟ الجواب بالقطع.. لا! وهل كان يمكن لمجدي يعقوب أن يصل إلي المكانة الرفيعة التي وصل إليها في العالم كله لو أنه استمر في مصر ولم يذهب إلي المملكة المتحدة؟ إلي الثقافة التي تحترم مواهبه وتنميها؟! نحن- عزيزي القارئ- نعشق الخرافة التي تعشعش في صدورنا حتي لو كان أمامنا تفسير عقلي سليم لظاهرة ما, تركناه وذهبنا نبحث عن التفسير الخرافي الذي لا يمكن أن يقبله غيرنا, جاءني حفيدي وكان طفلا في الثانية الإعدادية ليسألني: - لماذا لم يمت سيدنا يوسف عندما ألقي به أخوته في البئر؟ - فأجبته: لأن البئر كانت خالية من الماء.. - فامتعض وهو يقول: لقد قلنا ذلك للمدرس لكنه صاح بنا. - غلط! أكبر غلط! - وماذا في رأيه: الصح وأكبر الصح؟! - فقال إن الله تعالي كان قد أعد أربعة من الملائكة الشداد تلقفوا يوسف علي كفوف الراحة ثم جاءت قافلة وأرسلت دلوها فوضع فيه الملائكة سيدنا يوسف ولم يستريحوا إلا عندما سمعوا قول قائل منهم يا بشري هذا غلام!.. فقلت له أرجوك أن تبلغ عني المدرس أن تفسيره خاطئ لأن الآية نفسها تقول انهم لم يكونوا يريدون قتله, بل إبعاده عن والدهم فحسب وقال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب..(10 يوسف). - خذ مثالا آخر: برغم أن جنودنا البواسل قضوا ست سنوات في خنادق وتدريبات عنيفة استعدادا لليوم الموعود, وأن أحد الضباط من سلاح المهندسين هو الذي اقترح استخدام خراطيم المياه بموتورات قوية تدفع الماء بشدة فيذوب معها خط بارليف من الوجود وهذا ما حدث حتي وصفه موشي ديان بأنه أشبه بالجبن الفرنسي الجرويير فيه من الثقوب أكثر مما فيه من الجبن- برغم ذلك كله وجدنا بيننا من يقول ان الملائكة هي التي حاربت في أكتوبر1973 وهي التي جلبت لنا النصر.( ويقسم نفر منهم أنهم رأوهم بجوارهم يرتدون الجلباب الأبيض) ولست أدري لم الجلباب الأبيض, ولم لا تكون سترة عسكرية بيضاء أيضا؟! ثم هل كانوا يخضعون لأوامر الرئيس السادات وهو الذي أمرهم بالتوقف عند الكيلو عشرين؟ ثم أين كانوا ساعة الثغرة وقوات العدو تعبر القناة إلي السويس ثم تسير منها إلي الكيلو101 الذي جرت فيه المحادثات؟ لماذا اختفت مع طائرات الضربة الأولي في الوقت الذي كنا فيه في أمس الحاجة لمساعدتنا للخروج من المأزق الذي وضعتنا فيه إسرائيل وقد أصبحت علي مدي مائة كيلو من القاهرة؟! سؤال ساذج أشبه بالسؤال الساذج الذي أرسله مواطن إلي الشيخ يوسف القرضاوي يقول فيه:- - لماذا لا يرسل الله طيرا أبابيل إلي إسرائيل لترميهم بحجارة من سجيل, وتحمي المسلمين والعرب هناك من شر هؤلاء الناس..؟! وكان السؤال وجيها سببه كثرة ما رأي المواطن من ظلم إسرائيل وجبروتها ضد الفلسطينيين بخاصة, والعرب والمسلمين عامة, مع عجز العرب الشديد عن أن يفعلوا شيئا سوي الدعاء علي هؤلاء الكفرة المناجيس من الصهاينة قراصنة العصر..!!.. فهل يمكن لمثل هذه الثقافة أن تنتج عالما..؟ هذا من رابع المستحيلات فالحكمة السائدة تقول: أنت لا تزرع نباتات المناطق الحارة في القطب الشمالي والدب القطبي لا يعيش عند خط الاستواء, بل لابد من البيئة المناسبة, لابد من الجو العلمي الذي يسمح بأن يظهر العالم صغيرا فيكبر, والعالم الكبير فيكون عبقريا.. وللأسف فإن أحدا من المستشرقين علي مجالات الثقافة يهتم بذلك فهذه سيدة جليلة تشرف علي مؤسسة علمية كبيرة تقول في حفل عام اننا نهبط إلي الجمهور لكي نتعرف علي مطالبه ونلبيها! مع أن المفروض أن يحدث العكس أن ترفع هي هذا الجمهور إلي مستواها! وقل مثل ذلك في جميع المجالات الثقافية الأخري في السينما والمسرح والأغاني.. إلخ فهذا عريس يطلق عروسه لأنها داعبته باحدي الأغاني الهابطة..با- أحبك يا... فهدمت بيتها قبل أن تصل إلي عش الزوجية. وفيلم عنوانه فول الصين العظيم سخرية من سور عظيم بدلا من أن يتوقف المخرج دقيقة واحدة ليعطي المتفرج معلومة عن مشروع يعتبر من أعظم مشروعات البناء وهو إحدي عجائب الدنيا السبع في القرن الثالث أو الرابع قبل الميلاد, وهو يحدد الحدود التاريخية بين الصين ومنغوليا ويبلغ ارتفاعه تسعة أمتار, وارتفاع أبراجه12 مترا أما طوله فيزيد عن2.400 كيلو متر! وفيلم آخر صحفيان يذهبان إلي المطار لاستقبال الرئيس مانفيلا هكذا يقول أحدهما لاضحاك الجماهير فيسخر من الزعيم الثائر نلسون مانديلا المحامي العظيم الذي قضي نصف حياته في السجن بسبب دفاعه عن حقوق شعبه( جنوب أفريقيا) لكنه اتهم بمحاولة قلب نظام الحكم- وبعد الإفراج عنه أصبح رئيسا للمؤتمر القومي الإفريقي ثم انتخب كأول رئيس منتخب لجنوب أفريقيا.. فحتي لو كان الفيلم أو المسرحية كوميديا فينبغي ألا نلجأ إلي الاسفاف أو نهبط إلي مستوي العامة والأميين بل علي العكس علينا أن نحاول أن نرفعهم إلينا. وللأسف أصبح المثقف الآن هو الذي يميل إلي الألفاظ البذيئة ويرددها..! والطلبة في الجامعة لا يقرأون ولا ينطقون اللغة العربية بطريقة سليمة- وعندما سألت معيدة معينة حديثا: هل لديك مكتبة في المنزل أجابت الحمدلله ليس عندي..!! فهل رأيت شبابا من هذا النوع ؟ وعندما رويت لرئيس القسم هذه القصة- أمامها! وسألته كيف يمكن أن تعينوا هؤلاء؟! أجاب ببساطة شديدة: أنها اللوائح من يحصل علي مجموع أعلي يعين! وذات مرة اعترض طالب علي لومي له لعدم القراءة: كيف نقتني الكتب وهي باهظة الثمن؟! وله بعض الحق فالدولة لا تدعم الكتاب إلا بأقل القليل وان كانت تجيد الحديث عن غذاء الروح..! لكني سألت الطالب- ورجوته أن يلجأ إلي ضميره عند الإجابة عن هذا السؤال: لو أنك تملك عشرين جنيها هل تفضل أن تشتري كتابا أم لفافة تبغ؟! أم شريطا للأغاني الهابطة؟ أم تذهب إلي السينما الهابطة؟! هل أنت تسعي حقا إلي تثقيف نفسك ثقافة رفيعة؟! أما المدارس فحالها أسوأ كثيرا: في ستينات القرن الماضي دعاني موجه لإلقاء سلسلة محاضرات لتنوير أذهان المدرسين, وعندما أعتذرت لأنه لم يعطني فسحة من الوقت لتدبير أحوالي, ضحك الرجل وهو يقول: أتراك تريد أن تكون جادا..؟! ياسيدي أنا علي استعداد أن أريك مدارس ابتدائية في حلوان التلاميذ في الفصل علي الأرض ألعن من الكتاتيب القديمة؟ وعندما سألته: ولم لا تشترون طاولات ومقاعد من أموال التنوير؟! أجابني: هذا بند وذاك بند آخر ولو فعلنا لوقعنا تحت طائلة القانون؟! وتساءلت بداخلي.. أم علي قلوب أقفالها؟! مازالت الخرافة تعشعش في صدورنا مع أن العرب كانوا يأخذون خرافة علي سبيل الفكاهة فهو رجل من بني عذرة غاب عن قومه فترة ثم عاد فجأة لهم بالأكاذيب- ولهذا فإن لسان العرب يقول الخرافة هي المستملح من الكذب لكنا أصبحنا الآن نعتبرها الحقيقة الخالصة!