وأضيف إلي المبادئ التي أشرت إليها في المقال السابق المبدأ الخاص بالنزعة الإنسانية, وهو المبدأ الذي أراه يبدأ من معني المواطنة والوطنية علي السواء. هذا الانتماء إلي الوطن وصلت به ثورة1919 إلي ذروته, وجعلت منه أساس الوحدة الوطنية التي عبرت عن نفسها بتلازم الهلال والصليب, فضلا عن شعار: الدين لله والوطن للجميع. والواقع أن هذا الشعار قد صاغه دستور1923 وما تبعه من دساتير بما يؤكد أن المواطنين هم أبناء الوطن الواحد الذي يعلو ولاؤهم له علي أي ولاء آخر. وأنهم يمكن أن ينتسبوا إلي ديانات وعقائد متعددة, ولكن ولاءهم للوطن الذي ينتسبون إليه فوق كل ولاء. وهم يتوافقون علي دستور يحدد المبادئ الأساسية لحقوقهم وواجباتهم المتساوية في الوطن الذي يجمع بينهم ويؤلف بين قلوبهم, دون تمييز لواحد منهم علي غيره بأي وجه من الوجوه, يجعل للولاء الوطني نوعا من القداسة التي تدفع أبناء الوطن إلي التضحية بحياتهم في سبيل حمايته والدفاع عن أرضه ضد كل غاصب. ولا تتعارض الوطنية بهذا المعني مع القومية, فكلتاهما وجه للأخري في معني الانتماء لدائرة أكثر اتساعا. هذه الدائرة تصل إلي ذروتها من المنظور الإنساني الذي ينطوي علي النزعات الوطنية والقومية, ويصل ما بينها وغيرها في وحدة التنوع الخلاقة للبشرية التي ترجع إلي نواتها الأولي, أي إلي الإنسان الذي لا يختلف جوهره عن جوهر أي إنسان غيره في أقطار المعمورة الإنسانية التي تعلمت- بعد دروس طويلة قاسية- كيف تتعاون وتتفاعل وتتحاور لتحقيق التنوع البشري الخلاق الذي تغتني به البشرية كلها وتتآزر, مؤكدة القيم والحقوق الإنسانية المشتركة, وعلي رأسها حقوق الإنسان التي تؤكد حق كل إنسان- بلا تمييز- في الحرية والعدل والمعاملة التي تكفل الكرامة الإنسانية والأمن لكل أبناء المعمورة الإنسانية, دون انتهاك للخصوصية الحضارية, أو تمييز الهوية الثقافية لأي شعب من الشعوب. ويقيني أن الإيمان بالإنسانية يضيف إلي الشعور الوطني بعدا أشمل وأعمق, فيزداد الإنسان- مهما كان حبه لوطنه وإخلاصه في الولاء له- إيمانا بإنسانيته التي لا تتناقض مع هويته الوطنية والقومية, فيشعر أنه يشارك أقرانه في كل مكان في اتخاذ المواقف الإيجابية التي تجعله رافضا لأي اعتداء علي حقوق الإنسان في أي مكان علي ظهر الكوكب الأرضي. ويأتي بعد الإيمان بالنزعة الإنسانية التي أصبحت ممثلة في حوار الحضارات وتنوع الثقافات المتكافئة, بعيدا عن فظاظة الهيمنة القديمة أو نزعات المركزية الضيقة, الإيمان بمبدأ التقدم الذي يعلمنا أن تاريخ البشرية إنما هو حلقات يكمل بعضها بعضا, ويضيف فيها اللاحق علي السابق بما يجعل حركة التاريخ حركة صاعدة دوما, لابد أن يبني فيها كل لاحق بما يجعل من حضوره إضافة لكل سابق. هكذا ورثت الحضارة العربية الحضارات السابقة عليها في زمن صعودها. وذلك بما أسهم في دفع عجلة التاريخ إلي الأمام, والصعود في درجات الحضارة علي سلم التقدم. وظل الأمر كذلك إلي أن توقفت الحضارة العربية عن الإضافة, واستبدلت بقدرتها علي الانفتاح رغبتها في الانغلاق علي الذات, فانتابها الضعف الذي جعلها فريسة سهلة في مواجهة القوي الغازية: المغول والتتار والصليبيين. وزادها ضعفا استغناؤها عن التطلع إلي المستقبل الواعد, والعمل علي إبداعه, واكتفاؤها بذكريات الماضي, وعدم قدرتها إلا علي تقليده واتباعه, فشاعت فيها مقولة أمثال ابن رجب الحنبلي عن فضل السلف علي الخلف, وتوهم أن الكمال في الماضي, وأن كل تباعد عن نقطة متخيلة فيه, توهموا أنها العصر الذهبي للماضي, هو انحدار لا يفضي إلا إلي مزيد من الانحدار, فكانت النتيجة التأويل السلبي للحديث: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم.... وهو تأويل حكم بالسلب علي كل جهد لاحق, في سياق امتد بدلالة الحديث من البعد الديني إلي غيره من الأبعاد التي أشاعت نوازع التقليد وقيم الاتباع, فانحدرت بالحضارة العربية إلي أسوأ مراحلها التي لم تفق من سباتها إلا علي مطارق العصر الحديث. وللأسف, نحن نعيش في زمن لا يدعونا إلي النظر إلي الأمام, والقياس علي احتمالات المستقبل الواعد, وإنما يدعونا إلي النظر إلي الماضي, والقياس عليه في كل الأحوال, وبقدر ما تقضي هذه النظرة علي الإيمان بمبدأ التقدم المقرون بضرورة التطوير وحتمية التطور, ومن ثم تقبل التغير والتجدد, فإنها تعيدنا إلي الخلف, ساعية إلي اختزال ثراء العالم الحديث وتقدمه في ضيق نظرة دينية بعينيها, وتصورات فقهية هي الناتج الطبيعي للحظات الهزائم التي اقترنت بالتخلف العربي, ولحظات التعصب المماثلة التي قرنت الفلسفة بالزندقة, واستبدلت بانفتاح الفكر الانغلاق علي ماض ذهبي متوهم. وكنا نأمل أن تأتي ثورة يناير بالحرية والعدل والكرامة الإنسانية, ولكن الثورة انقلب عليها من سرقها, ومن حطم أحلامها, ولا يزال يمضي في تحطيمها وقمع أصحابها. وها نحن لا نزال نعيش في واقع استبدل بالحلم الكابوس, ويتم إفراغ الدولة المدنية من محتواها, وتتشظي وحدة الأمة المصرية, وبعد أن كنا نتحدث عن وطن يحتضن كل الديانات بلا تمييز في حقوق المواطنة, أصبحنا نتحدث عن وطن فقد محوره, وضاع منه أمنه, وشاع فيه التمييز بكل أنواعه واتجاهاته, خصوصا التمييز ضد المسيحيين وضد المرأة وضد المسلمين أنفسهم ممن يندرجون تحت مظلة الجماعة. ولكن اليأس لن يعرف سبيلا إلينا, فقد تعلمنا أن الليل له آخر, وأن مصر لابد أن تشهد مشرق النور والعجائب, كما علمنا نجيب محفوظ. لمزيد من مقالات جابر عصفور