يعلم الجميع أن هناك حضارات سادت ثم بادت, كما يعلم كثير من الجيولوجيين علي وجه الخصوص أن هناك أنهارا كثيرة علي مر التاريخ قد اندثرت وأخري غيرت مسارها بفعل الطبيعة, واليوم فإن نهر النيل الذي أطلق عليه العرب قديما نهر مصر, كما ورد في القاموس المحيط, معرض للاندثار والفقدان في صحراء النوبة بفعل الإنسان, فالنهر قبل بناء السدود وتدخل الإنسان كان يتدفق علي طبيعته بقوة تمكنه من اجتياز سباق الحواجز ومن أصعبها منطقة الصحراء النوبية التي تمتد نحو ألف كم شمال الخرطوم قبل أن تصل إلي الأراضي المصرية, وتعتبر من أجف صحاري العالم, حيث لا يمد النيل أي رافد سوي عطبرة, والبخر شديد جدا, وتبدأ كميات المياه في النهر بالتناقص كلما تقدم خطوة إلي الأمام, ولولا الفيضان الحبشي لفقد النيل نفسه في الصحراء قبل أن يصل إلي مصر, ولولا السوباط لما وصل إلي الخرطوم إلا نهر ضئيل هزيل, ولولا النيل الأزرق لما وصل النيل إلي مصر. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل يعجز نهر النيل عن إكمال رحلته إلي مصر؟ ويختفي في منطقة النوبة والصحراء الكبري جنوبأسوان بعد اصرار إثيوبيا علي بناء سد النهضة علي النيل الأزرق, وللإجابة علي هذا السؤال يجب أن ندرك أن أمطار الحبشة موسمية بمعني أنها تسقط في أشهر الصيف بشكل كثيف وتنتاقص في بقية أشهر السنة إلي حد تجف معه مجاري معظم أنهار الهضبة الإثيوبية تماما لبضعة أشهر, كما يجب أن ندرك أن أراضي إثيوبيا وشعبها بحاجة للمياه فهي تتعرض لموجات جفاف حادة في كثير من السنين ولذلك فمن حقها تأمين مصادر مياه دائمة وتوليد كهرباء وتحقيق تنمية شاملة للشعب الإثيوبي الشقيق, ولكن ليس علي حساب أهل مصر, فالنيل الأزرق يسهم بما مقداره49 مليار م3 والعطبرة نحو11 مليار م3 من اجمالي الحصة التي تصل إلي بحيرة السد العالي وهي84 مليار م3 بمعني أن السوباط والنيل الأبيض تساهمان معا بما مقداره14 مليار م3 فقط, حيث تتوزع الكمية الكلية بين مصر والسودان بنسب555 مليار م3 و185 مليار م3 علي الترتيب, بينما يتبخر من بحيرة السد ما مقداره10 مليارات م.3 ويجب أن يدرك الجميع أن كل م3 مياه يحتاج إلي100 م3 مياه لكي يحمله إلي أرض مصر, وأن الله سبحانه وتعالي لكي يجعل نهر النيل يكمل رحلته إلي مصر فقد جعل فيضان السوباط يأتي مبكرا قليلا عن فيضان النيل الأزرق لكي يقوي النيل الأبيض ويعطيه طاقة تمكنه من الاستمرار في الجريان باتجاه الشمال, ثم يأتي فيضان النيل الأزرق في الوقت المناسب تماما لكيلا تنقطع فيه مياه النيل عن مصر, فوقت وصول مياه النيل الأزرق إلي مصر من المهم ألا يتغير وكذلك الكميات لكي يستمر شريان حياة المصريين في الجريان باتجاه مصر, ومن يملك أن يفتح ويغلق بوابات سد النهضة علي النيل الأزرق قادر علي شرق وغرق مصر في آن واحد!وأود أن أذكر القائمين علي الملف المائي المصري بأن نهر النيل معرض للاندثار بفعل السدود في منابع النهر وضعف قوته وقد لا يصل إلي مصر, وأن إثيوبيا علي وجه خاص تمثل بالنسبة لمصر الحياة, وأن شعبها في حاجة للمياه والتنمية أيضا, ويمكن أن نعمل سويا لكي نزيد من التدفق الكلي للنهر وتحسين نوعية المياه والعمل علي الاستفادة من السلع العامة المتوافرة بالحوض النهري المشترك بيننا, كما أن مجرد انخفاض منسوب النيل فإنه يعني للمصريين غلاء الأسعار وانتشار المجاعات, ولكم فيما كتب التاريخ عن المجاعات التي حلت بمصر في أثناء الفيضانات المنخفضة عبرة, فما بالك بانقطاع مياه النهر واندثارها في الصحراء, وأذكر الشعب الإثيوبي بأن الناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلاء, وأدعوهم أن يتبنوا مبدأ السلامة الإقليمية التي تقر بوجود مصالح مشتركة بين الدول المتشاطئة في الأنهار تترتب عليها سلسلة من الحقوق والواجبات المتبادلة من أهمها ألا تلحق أذي بالدول الأخري الشريكة في الحوض المائي, وأن يبذلوا أقصي جهدهم لتفادي الصراع في وادي النيل. د.كمال عودة غديف استشاري إدارة المياه بالبنك الدولي