في نفس الأسبوع, احترقت أوراق تاريخ مصر بالمجمع العلمي في القاهرة, وعرضت أوراق أديب مصر الأكبر نجيب محفوظ للبيع بالمزاد العلني في لندن, فهل هانت مصر لهذا الحد, وهل هان تاريخها وهانت ثقافتها حتي صارت تضرم في القديم منها النيران ويتعرض الحديث منها للبيع لمن يدفع أكثر؟! لقد كان حريق المجمع العلمي مروعا بقدر ما كان بيع أوراق أكبر أدبائنا مخجلا, فقد احترق المجمع الكائن بذلك المبني التاريخي الذي يعود الي القرن ال18 لأن أحدا لم يكن يحرسه برغم ما فيه من كنوز, ولأنه لم يكن مجهزا بوسائل الإطفاء الحديثة في الوقت الذي تعودنا أن تقف الحراسات علي بيوت الوزراء والمسئولين, وتصطف لهم التشريفات ويتوقف لهم المرور في الشوارع لساعات. وعرضت الأوراق الشخصية لنجيب محفوظ والتي تتضمن بعض مسودات أعماله الأخيرة المكتوبة بخط يده وبعض أعماله الأولي التي لم تنشر, في الوقت الذي تتحدث الدولة منذ رحيله قبل ستة أعوام عن إقامة متحف له يضم ضمن ما يضم مثل هذه الأوراق. إن لقصة بيع أوراق محفوظ تفاصيل كثيرة خفية بعضها صالح للنشر, والبعض الآخر لم يحن موعد البوح به بعد. وبداية دعونا نسأل كيف خرجت هذه الأوراق من مصر؟ الحقيقة أن من اشتراها هو شخص أمريكي الجنسية يعمل في هذا المجال, الذي يصل حجم التعامل فيه إلي الملايين من الدولارات, ويكفي أن أشير هنا إلي أن الأرشيف الخاص بالروائي الأمريكي جون أبدايك والذي توفي منذ نحو سنتين قد بيع في العام الماضي لإحدي الجامعات الأمريكية ب10 ملايين دولار. والحقيقة أن المشتري الأمريكي حصل علي أوراق محفوظ عن طريق وسيط له هو الذي حضر إلي مصر وتفاوض مع الباعة, وهم من أقارب أديبنا الأكبر وحصل علي عمولته من المشتري. أما الأوراق المبيعة فقد كانت في معظمها ضمن مكتبة محفوظ في بيت العائلة القديم بالعباسية, وهي عبارة عن مسودات لأعمال أولي لم ير محفوظ أنها جديرة بالنشر فتركها حيث هي, بالإضافة لبعض ما كان يكتبه محفوظ في أيامه الأخيرة تحت اسم أحلام فترة النقاهة والتي كتبها بخط يده المرتعش علي أثر طعنة السكين الغادرة التي تلقاها من أحد الإرهابيين الإسلاميين عام 1994, وتلك كان محفوظ يرسلها لمجلة نصف الدنيا عن طريق سكرتيره الخاص وكانت المجلة تنشرها بواقع ثلاثة أحلام كل شهر, ولم يكن محفوظ يطلب استعادة أصولها بعد النشر, وكانت هذه الأوراق تعامل معاملة أي مقالات يتم إرسالها للنشر في الصحف والمجلات فلم يكن لها بالنسبة للمطبعة بعد النشر. أما الصور الفوتوغرافية, فبعضها أتي بلا شك من أرشيف إحدي الصحف حسبما يتضح مما كتب علي ظهرها من ملاحظات, أما البعض الآخر فقد أتي هو الآخر من بيت العباسية. وهناك تقليد راسخ في صالات المزاد العالمية يسمي Provenance وهو يعني بتحديد مصدر ما يتم عرضه بالمزاد, وقد علمت أن سوذبي تأكدت وفق هذا التقليد من أن أوراق محفوظ ليست مسروقة وأن مصدرها هو أحد أفراد عائلة محفوظ ومن هنا قبلت بيعها. وإذا كانت النيران قد نجحت في التهام بعض أوراق تاريخنا القديم بالمجمع العلمي, وطالت تلك النسخة النادرة من كتاب وصف مصر الذي كتبه علماء الحملة الفرنسية, فقد تم إنقاذ أوراق محفوظ من البيع بالمزاد العلني وكان لرجلين مصريين دور وطني لم يعلن عنه حتي الآن, الأول هو السيد عمرو موسي أحد أشد المحبين لنجيب محفوظ والمقدرين لمكانته الأدبية الفريدة, والذي اتصل فور أن علم بالمزاد بأسرة محفوظ ليتأكد إن كانت قد أقرت هذا البيع, ولما علم من كريمتايه أنهما لا علاقة لهما بالبيع وأنهما قد أوكلتا الأمر لأحد المحامين لاتخاذ الإجراءات القانونية, اتصل بنفسه بوزير الخارجية محمد كامل عمرو طالبا منه سرعة التدخل عن طريق السفارة المصرية في لندن, حيث إن المزاد كان باقيا عليه 48 ساعة والإجراءات القضائية ستتأخر حتما عن الموعد المقرر للمزاد. في نفس الوقت, قمت بالاتصال بالصديق المهندس نجيب ساويرس لعلمي أنه موجود في لندن وطلبت منه في حالة عدم نجاح المساعي الرامية لوقف المزاد, أن يشتري أوراق محفوظ ويعيدها إلي مصر, فتحمس نجيب للموضوع وذهب بنفسه إلي صالة سوذبي بشارع بوند الشهير في قلب لندن وعاين الأوراق التي كانت موضوعة في صندوقين من الكرتون, واتصل بي من لندن قائلا إنه سيذهب في اليوم التالي لحضور المزاد بنفسه ليشتري الأوراق بأي ثمن من أجل إعادتها إلي مصر وتقديمها للمتحف المزمع إقامته لمحفوظ بوكالة محمد أبوالدهب بالقاهرة القديمة. في تلك الأثناء, كانت السفارة المصرية قد تمكنت من أن تنقل لمسئولي سوذبي أن اسرة محفوظ تعترض علي البيع باعتبارها الوريث الشرعي لأديب نوبل الكبير, فتم علي الفور العدول عن البيع وأصدرت صالة سوذبي قبل المزاد بساعات بيانا تعلن فيه أنه ثبت لديها أن هناك من الورثة من يعترضون علي البيع. علي أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الأوراق ستعود إلي مصر, فالأرجح أن سوذبي ستعيد الأوراق إلي مالكها الأمريكي الذي سيظل هذا الجزء من تراثنا الأدبي الحديث في حوزته ما لم يتدخل القضاء (المصري البريطاني الأمريكي؟؟) في الأمر فيحكم بغير ذلك. وحتي لو عادت الأوراق فهي لن تسلم من حريق آخر أشد ضراوة من حريق المجمع العلمي ينظرها في مصر, فألسنة الشر والجهل والتخلف قد تكون أشد فتكا من ألسنة اللهب, وقد انطلقت تلك الألسنة في الأيام الأخيرة ترمي محفوظ بالكفر والإلحاد وتصف روائعه الأدبية التي بهرت العالم بأنها أدب الدعارة والمواخير وغرز الحشيش (!!) المزيد من مقالات محمد سلماوي