من سوء التقدير أن يتوهم البعض أن إثيوبيا وباقي دول المنابع, ممكن أن تترك مياه نهر النيل لمصر والسودان وحدهما, فالموقف الإثيوبي الذي يطالب بالحصول علي حصة من المياه, هو موقف ثابت, منذ فترة حكم هيلا سيلاسي وحتي الآن والموقف المصري الذي لا يفرط في أي قطرة من المياه, هو أيضا موقف ثابت, منذ فترة حكم جمال عبدالناصر وحتي الآن, نفس الأمر بالنسبة لدول حوض النيل الأخري, إذن فالهوة كبيرة بين الجانبين, وإن حاول المسئولون المصريون إخفاءها أو التخفيف من وطأتها أمام الرأي العام. الإخفاق المصري في ملف حوض النيل اتخذ منعطفا خطيرا منذ نحو أربع سنوات, وعلي وجه التحديد في مارس2009, عندما تم إقصاء وزير الري وقتها الدكتور محمود أبو زيد, بشكل انتقامي ومفاجئ وغير مبرر, وهو جالس علي مائدة المفاوضات, وبيده كل الخيوط, فتوالت التداعيات بعد ذلك بإيقاع سريع للغاية, انتهت بالتوقيع المنفرد لدول المنابع علي اتفاقية عنتيبي دون مصر والسودان في مايو2010, أي بعد عام واحد فقط من إقصاء أبوزيد. صعوبة ملف حوض النيل الشائك, وتشعب موضوعاته الفنية والسياسية والأمنية والقانونية وتشابكها, جعلت مسئولو الملف الجدد, القادمون بعد ثورة25 يناير, يشعرون بالخوف والرهبة من التوغل فيه, وإبداء أي آراء أو أفكار جديدة إزائه, ولم يجدوا أمامهم سوي استنساخ ماكان يتم في الماضي من سياسات وإجراءات, حفاظا علي ماء الوجه أمام الرأي العام, رغم ثبوت فشلها في حل القضية, مثل تقديم المنح والمساعدات المادية لدول الحوض, لتنفيذ بعض المشروعات هناك, مما عرض مصر للخديعة والابتزاز السافر من بعض تلك الدول, كبدتها عشرات الملايين من الدولارات, وهو ما أكد عليه وزير الخارجية الأسبق أحمد أبو الغيط في كتابه شهادتي, الذي أوصي فيه بتغيير تلك السياسة, رغم أنه قد شارك في تنفيذها, ثم تبين له بعد ذلك, أنها لم ولن تحرز أي تقدم في حل إشكالية مياه النيل. مأساة مصر في حوض النيل تجلت بعد ثورة25 يناير في أمرين خطيرين, الأمر الأول هو بدء إثيوبيا في إنشاء سد النهضة العملاق علي النيل الأزرق, والذي ستكون له تأثيرات سلبية كبيرة علي حصة مصر الحالية من مياه النيل, وعلي كمية الكهرباء المتولدة من السد العالي, والأمر الثاني هو إعلان جنوب السودان عزمه الانضمام إلي اتفاقية عنتيبي, وعدم اعترافه باتفاقية1959, التي تعطي مصر حصتها الحالية من مياه النيل, وتعطيها أيضا الحق في الحصة الإضافية المتوقعة من مشروعات أعالي النيل, في حالة تنفيذها, والتي تقع جميعها في جنوب السودان, ومن بينها مشروع قناة جونجلي, والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة علي الساحة الآن هو: كيف تستطيع مصر أن تتعامل مع هذه المعضلة الكارثية الخطيرة, في ظل تلك الظروف السياسية بالغة التعقيد في منطقة حوض النيل, والتدخلات الأجنبية السافرة, والتغلغل الإسرائيلي المتشعب في كل المجالات, بما فيه مجال المياه نفسه؟ إنني أطالب الدكتور هشام قنديل, وقد عملنا سويا في هذا الملف لسنوات طويلة, وسافرنا معا لبعض دول المنابع وحضرنا الاجتماعات, وقدمنا التقارير, بأن يسارع بتنفيذ تلك الإستراتيجية الديناميكية التي طلب مني إعداداها قبل توليه الوزارة, للتعامل مع أزمة مياه النيل بعد تفاقمها, وتتضمن سيناريوهات عديدة للمخاطر المحتملة, وتحتوي علي إجراءات تنفيذية غير تقليدية, مجدولة زمنيا بالتفصيل, وأرجو ألا يثنيه انشغاله بالشئون الداخلية للبلاد عن هذا الأمر بالغ الخطورة, والذي يعلم أبعاده جيدا, ويعتبر من أهم عناصر الأمن القومي المصري. كما أطالب الدكتور هشام قنديل: بأن يعالج بحسم, القصور الحالي الموجود في بعض الأجهزة المعنية, والذي من أهم مظاهره تكرار أنسحاب أو تغيير المسئولين الرئيسيين عن ملف حوض النيل, سواء في وزارة الري أو وزارة الخارجية أو غيرها, علي فترات متقاربة, مما يتسبب في حالة من البلبلة والإرتباك, وغياب التنسيق, وعدم التواصل, وفي تقديري أن الحل يكمن في سرعة إنشاء هيئة عامة لمياه النيل, تتبع رئيس مجلس الوزراء مباشرة, تتولي كافة جوانب الملف في منظومة واحدة, وتخرجنا من حالة الاسترخاء والاستسلام, التي نحن عليها الآن, تأتي بافكار جديدة, وتحدث تغييرات جذرية في السياسات وأساليب العمل, بدلا من بعثرة الاختصاصات بين عدة جهات, تعمل في جزر منعزلة, وتتنصل من مسئولياتها, وتلقي كل منها باللوم علي الأخري, وتصبح هي نفسها جزءا من المشكلة بدلا من أن تكون صاحبة الحل, وقد سبق أن تقدمت بمقترح تفصيلي بإنشاء تلك الهيئة للدكتور هشام قنديل, قبل توليه الوزارة, إلا أنه لم يظهر علي أرض الواقع حتي الآن, رغم أن عامل الوقت ليس في صالحنا علي الإطلاق. وفي النهاية, أرجو أن يكف السادة المسئولون عن الملف, والسادة الهواة, عن الإدلاء بتلك التصريحات الإعلامية المبهمة والمتضاربة والمرتبكة, التي تولد الشك والريبة وعدم الثقة في نفوس المواطنين, كما أرجو ألا يتخذ أي قرار مصيري يتعلق بمياه النيل من شخص أو من عدة أشخاص, مهما تكن مكانتهم العلمية أو الوظيفية, وإنما يتم ذلك بموافقة شعبية وبرلمانية ومجتمعية, بعد طرح أبعاد القضية للمناقشة, بأكبر قدر من الشفافية, علي الجامعات ومراكز البحوث والنقابات ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني وغيرها, حفاظا علي حقوقنا, وحقوق الأجيال المقبلة من بعدنا, حتي لايدفعوا فاتورة فشلنا. لمزيد من مقالات م . عادل انور خفاجى