يارب احفظنا العين صابتني ورب العرش نجاني, أول ما تقع عليه عينك, وأنت تهم بدخول( حمام الأربع) عبارة كاشفة, تفصل بين خارج الحمام( المتربص) وداخله الممتلئ( بالطمأنينة), وهو فصل بين أزمنة, بين عراك وعنف وتلوث لاينتهي, وبين راحة الجسد حيث سكينة الروح وفراغ الخاطر..بخار وعطور ومستحضرات تجميل, تستحضر أجواء التاريخ وصراعات السياسة وتجليات الفلسفة. منذ اقامت كليوباترا حمامها المعروف في قنا جنوبا ومرسي مطروح شمالا, إلي حمام شجرة الدر الذي شهد نهايتها بقبقاب جارية ضرتها, والحمامات أمكنة أثيرة لمؤامرات الساسة ودسائس الملوك وأحلام الباحثين عن أجساد عفية. وفي مصر بني الفراعنة حمامات, وصار تابعوهم علي منوالهم, ثم ازدهرت في عصور المماليك والعثمانيين, واليوم لم تبق منها إلا شواهد وأعداد محدودة, تتحدي الفناء, لكن المشاهير والعارفين بالأسرار وطالبي إكسير الشباب, يرتحلون إليها رحلات منتظمة. فكانت رحلتنا معهم بالقلم والكاميرا. جلست في بهو حمام الأربع منتظرا المشرف علي الحمام, قبل أن يدخل علينا السائح الكندي الجنسية بريتت القادم من إنجلترا حيث يعمل بإحدي جامعاتها مدرسا, بادرني بالتحية, ثم سألني هل هذا حمام الأربع ؟ فأجبته: نعم هذا هو حمام الأربع أما الآن فقد تغير اسمه ليصبح الحمام فسألته كيف عرفت بهذا الحمام ؟ فأجاب: عرفته من خلال جوجل الموقع الالكتروني, فسألته هل هذه الزيارة الأولي لمصر؟ فأجاب: هذه الزيارة الثانية لي, وعن تجربة الحمام قبل ذلك قال برييت نعم قمت بتجربة الحمام أول مرة في اسطنبول والمرة الثانية كانت في تونس, فأنا أستعد لهذه التجربة منذ شهور لأني أعلم أن القاهرة بها حمامات فريدة من نوعها, ثم أخرج من حقيبة يضعها علي ظهره سروال قصير شورت ومحرمه كبيرة فوطة ونعال شبشب, وعن سر ولعه بهذه التجربة يقول: أنا أبحث عن الاسترخاء والطبيعة هربا من ضغوط الحياة. وبعد عدة دقائق دخل من باب الحمام محمد إبراهيم الشهير ب عوكل صاحب حمام الأربع سابقا وهو في العقد السادس من العمر58 عاما, وسر هذا الاسم كما يقول: إن والدته كانت لا يعيش لها أبناء وخوفا من الحسد تم أطلاق هذا الاسم عليه عوكل لكي يعيش, وعن حمام الأربعاء يقول: يعاني عدد من الحمامات الشعبية بالقاهرة, والتي بنيت خلال القرن الرابع عشر الميلادي, من الإهمال, فمنذ أن استأجرت هذا الحمام من الأوقاف وأنا حريص علي نظافته والحفاظ علي طرازه المعماري, وان يبقي كما هو, لأني عاشق للجمال, ويضيف أن تردد المصريين من طبقتي محدودي ومتوسطي الدخل علي هذه الحمامات الشعبية, لرخص أسعارها, مقارنة بمراكز التجميل أو ما يطلق عليهSpa, والتي تتميز بارتفاع تكلفتها. وعن طريقة العمل بالحمام يقول: عوكل تقسم أوقات استخدامه إلي فترتين, صباحية وهي مخصصة للنساء, وأخري مسائية تستقبل الرجال الراغبين في النظافة والاسترخاء. ولحمام الأربع بوابة خارجية متصلة بمدخل ينتهي بساحة لاستقبال الزائرين وحفظ متعلقاتهم, يلحق بها مجموعة من الغرف الداخلية التي تحوي أحواضا يجلس فيها الزائر ليتم( تكييسه), وهي عملية عبارة عن تدليك الجسم بطمي مغربي مخلوط بمواد أخري لتفتيح الجسم والبشرة وإزالة الجلد الزائد. وتوجد غرفة أخري تسمي بيت الحرارة, تحوي مغطسا ممتلئا بالمياه الساخنة التي تصل إليه عبر بئر للمياه في أسفل الحمام, ويتم تسخين المياه من خلال سخانات الغاز الذي يوجد بجوار الحمام, ومن خلال بخار الماء المنبعث من المغطس يستمتع الزائر بحمام البخار الذي يساعد علي تفتح مسام الجسم, لمدة15 دقيقة. تأتي بعد ذلك مرحلة الاسترخاء علي مصطبة من الرخام, وهي سطح مرتفع قليلا عن الأرض, وتجري عليها عملية التدليك الذي يعقبها دش ساخن بالماء وخليط من الأعشاب الذي يترك علي الجسم لمدة30 دقيقة قبل شطفه بماء الورد, ثم التعرض للبخور, لإكساب الجلد رائحة طيبة. وعن نوعية الزبائن المترددين علي الحمام يقول عوكل في الفترة المخصصة للنساء: والتي تشرف عليها زوجتي ام عبد الرحمن يأتي لها زبائن من جميع الطبقات, فلديها سيدات من منطقة الزمالك الراقية القريبة من هنا والتي لا يفصل بيننا وبينها غير كوبري, وتأتي لها أخريات من المهندسين ومصر الجديدة, بالإضافة إلي ساكنات بولاق أبو العلا اللاتي يعتمدن علي الحمام لتجهيزهن في ليلة زفافهن, وأيضا بعد الزواج. وفي الفترة المسائية والتي أشرف أنا عليها وهي مخصصة للرجال فمعظم زبائني من سكان المناطق الراقية ومنهم مهندسون وأطباء وشيوخ وممثلون ومنتجون ولاعبي كرة القدم المشاهير. ويضيف: يزورنا سائحون عرب وأجانب من بلدان مختلفة يرغبون في تجربة أماكن يعتبرونها من التراث الذي أوشك علي الانقراض, ويؤكد أن حمامه ضمن حمامين أو ثلاثة فقط يعملون الآن في القاهرة. وأوضح عوكل أن ما يميز الحمام الشعبي عن مراكز التجميل والمراكز الصحية هو اعتماد الحمام علي البخار الطبيعي وهو عبارة عن بخار متصاعد من مغطس مملوء بالماء الساخن فيتصاعد البخار لتفتيح مسام الجسم, أما مراكز التجميل فتعتمد علي البخار الصناعي الكهربائي, وهو ما قد يعرض الزائر للاختناق في حال طالت مدة تعرضه للبخار. ويضيف أن الخامات المستخدمة في الحمام الشعبي, معظمها خامات محلية مثل; قشر البرتقال والليمون المهروس وخشب الصندل, وبعض الفواكه ومسحوق الترمس والذرة الممزوج بزيت الزيتون أو السمسم, بينما الخامات المستخدمة في مراكز التجميل تكون مستوردة من الخارج, أو تحمل ماركات عالمية, وهذا ما يؤثر علي سعر الخدمة المقدمة التي يمكن أن تصل إلي آلاف الجنيهات مؤكدا أنه مازال للحمام الشعبي زبائنه الذين يحرصون علي القدوم إليه دوما..