حب وأمل ولقاء.. أو يأس وانتحار وفراق.. تأمل وهدوء.. أو نزهة وإنطلاقة في الهواء. باعة جائلون باحثون عن لقمة عيش يبيعون ورودا حمراء في ورق سلوفين, أو كوب من حمص الشام, أوكيس فيشار, أو كوز ذرة استوي بنار الشواء. صلاة علي روح الغائب.. وصلاة جمعة للثائر.. وشعب يخرج غاضبا في مظاهرات فيقابله الأمن بخراطيم الماء. غزل وتحرش من شباب صغير بفتيات ونساء.. قعدة عائلية بعد المغربية, أو مقابلة غرامية, أو عريس وعروسة مع الأهل في لقطة تذكارية. كل هذه مشاهد رصدناها فوق الكباري المصرية.. حياة كاملة بحلوها ومرها, بانضباطها وانفلاتها, قرر المصريون دون سابق اتفاق ولا تخطيط أن يعيشوها فوق تلك الألسنة المعلقة التي تشق سماء مصر وترتفع عن أرضها. لم يكن طبعا الهدف من إنشاء أي كوبري أن يحب ويأكل ويتنزه المصري فوقه, كان الهدف فقط فك إختناق المرور وتسهيل العبور إما فوق الأرض أو أعلي النهر, ولكن بمرور السنين أصبحت الكباري ملتقي العاشقين ومقصد السهرانين.. والهاربين من رطوبة صيف في بيت ضيق وقديم. كوبري قصر النيل هو الأكثر شهرة في هذا المجال, فإن له إطلالة ساحرة علي المراكب والبواخر وهي تشق مياه النيل, الكوبري الذي كان إنشاوه في1871 بقرار من الخديوي إسماعيل لم يكن ليسمح بهواة التنزه والباعة الجائلين مجانا, فقد كان المرور فوقه يتطلب دفع رسوما باهظة ربع قرش للنساء والرجال وقرشان لعربات البضائع مع إعفاء الأطفال إلا أن الكوبري أعيد بناؤه في عهد الملك فؤاد الأول ليتناسب مع زيادة الضغط عليه ولعل ارتباط كوبري قصر النيل بالأجواء الخيالية والرومانسية, كان سببا في أن يختاره عمرو ليكون شاهدا علي نهاية قصة حبه وأيضا نهاية حياته, وكانت حادثة انتحاره مشنوقا بحبل شده إلي سور الكوبري من أكثر ماهز الرأي العام منذ قرابة أربع سنوات. وفيما يقف الحب العاطفي منزويا علي جانبي الكوبري وأرصفته علي إستحياء, جاء حب الوطن وحب الحرية وحب العدالة الإجتماعية يوم جمعة الغضب ليحتل كل أرضية كوبري قصر النيل, ولم ينهار أمام سحب دخان الغاز المسيل ولا أمام خراطيم مياه الأمن المركزي. وعندما نعود بالذاكرة أكثر من خمسين عاما نري شباب جامعات ثائرين يكررون نفس الفعل ولكن علي كوبري عباس في ثورة انطلقت من جامعة فؤاد الأول إلي قصر عابدين, اعتراضا علي استمرار التواجد البريطاني في مصر لتأمين قناة السويس مما صدم الشعب الذي كان يحلم بقرب الإستقلال, وبدلا من المياه والقنابل تم فتح الكوبري لينشق نصفين, وتعرض الطلبة لإصابات وحدثت خسائر في الأرواح. ويتشابه كوبري عباس مع كوبري الجامعة في عرض مساحة الرصيف التي شجعت باعة الحمص والترمس والبطاطا والبليلة والشاي علي تحويل الأرصفة لكافتيريات ليلية, حتي تطول قعدة الزبون وينتفع الباعة بأكثر من الثمن الزهيد للمشروب. الكل أزعجته كثيرا لقطات الكاميرا, فالبائع رغم جرأته وسطوته إلا أنه يخاف أن يأتي من يطرده, وخصوصا أن الموسم قادم كما همس لي أحدهم بعد إنتهاء الإمتحانات وروقان بال الأهل والطلبة والطالبات, أما الأحباء والعشاق الذين ينزعج المارة من مشاهد حبهم المفضوح علي الهواء فقد هربواأيضا بعيدا عن الكاميرا لأن هناك بالتأكيد من يجلس في البيت ولا يعلم بأمر هذه الخروجات. ربما كان الطفل بائع الفيشار أكثرهم جرأة وكلاما, وقال أنه يساعد والده في تحميص الذرة داخل المحمصة, وأن اخواته يعملون مثله في بيع الفيشار ولكن في أماكن أخري. بائع حمص الشام لم يكن لديه أي استعداد للكلام, هو فقط يفهم أن تطلب منه المشروب بشطة أو بدون وتجلس علي الكرسي وتدفع المعلوم.. تركته بعد أن قال لي: ماتعطلوناش يا أساتذة عن أكل عيشنا إما تقعدوا أو تسيبونا وترحلوا!! ساعات وساعات أمضيناها فوق كوبري قصر النيل وكوبري عباس وكوبري أكتوبر وكوبري الجامعة, والحقيقة أن ماعلي الكباري فعلا حياة كاملة.. وعالم آخر يعيشه المصريون يحتاج لباحثين لرصده وتحليله في كتب ومؤلفات.