لا خطب مرسى، ولا حوارات هيكل.. لا شىء ينشغل به البسطاء.. تهديد أصحاب المخابز أخطر من تهديد مرسى، والحديث عن الأصابع الخارجية.. على الشاشة مواطن يصرخ «عاوزين ناكل».. تلك هى الكارثة.. كثيرون لا يفهمون معنى عزل النائب العام.. لا يفهمون حديث الأصابع.. لا ينشغلون بالبورصة.. إليكم مشاهد الخوف: فى تاكسى أسود توقف التاكسى بجوارى.. ركبت بهدوء.. سألنى: على فين؟.. قلت: التليفزيون.. لم أفكر لحظة أنه قد يرفع البنديرة.. لا يوجد عداد أصلاً.. سألنى: إنت مذيع يا باشا؟.. قلت: لأ يا مولانا.. كان صاحبنا يطلق لحيته.. ابتسم بسخرية قائلاً: مولانا؟.. قلت: ألا تطلق لحيتك؟.. قال: مش فاضى بس.. إهمال!.. قلت: يعنى ما عندكش خمس دقايق؟.. قال: مكتئب، وما عنديش أحلق.. أثار انتباهى.. قلت: عندك تاكسى ما شاء الله!.. قال: ده بالقسط.. وصلنا ماسبيرو.. تركت له عشرين جنيهاً.. شكرنى السائق بشدة.. سألته: هتحلق كده؟.. ابتسم أخيراً: هاحلق واستحمى كمان! «سيد» بتاع الفيشار فى طريقى للدقى عدت ماشياً.. مررت بكوبرى قصر النيل.. الصورة القديمة تلاشت.. لم تعد هناك رومانسيات.. هناك من يفترش الرصيف بالكراسى.. الفرشة تطول عشرين متراً.. لا أحد يجلس عليها.. هناك إحساس بالخوف.. لا صاحب الفرشة يبيع شيئاً، ولا طلاب الفسحة يجدون مكاناً.. الكوبرى تكسوه كآبة.. لا يختلف الباعة الجائلون عن سائق التاكسى الأسود.. «سيد» بائع الفيشار كان شارداً، يشبه «عمر» بتاع البطاطا.. لا يبيع شيئاً لأحد.. كثيرون يخافون إظهار نقودهم.. الفتيات يحتضن الحقائب فى الصدور.. بتاع الفيشار وقف يتسلى.. يأكل واحدة واحدة! «نصبة» بائعة الترمس وصلتُ إلى نهاية قصر النيل.. أحسستُ أننى استرحت.. لم أتمتع بصفحة النيل، إلا عند حديقة الأندلس.. فى ميدان الأوبرا نصبة صغيرة، عندها امرأة قمحية شاحبة.. لا تعرف الأوبرا.. لم تسمع عن نشاطها.. لا تعرف حوارات هيكل.. لم تسمع عن الانحدار للهاوية.. تعرف اسم مرسى.. باعت الترمس منذ بداية الثورة.. غادرت التحرير هاربة من الغاز.. استقرت آخر الكوبرى الشهير.. انقطع الثوار، وانقطع البيع والشراء.. بدا على وجهها البؤس.. ربما مضى اليوم لم تبع شيئاً.. شعرت بجوع.. عصافير بطنها تزقزق.. أخذت كوباية ترمس.. راحت تقزقز فى استسلام! «هلوسة» مع النفس توجهتُ مباشرة إلى مكتبى.. عدتُ مهموماً بمشاهداتى المؤلمة.. قد تراها بسيطة جداً.. ربما هى بالفعل كذلك.. لكنها مؤشر على الانحدار.. ملامح الصورة مخيفة.. مكوناتها سائق التاكسى، وبائع الفيشار، وبائعة الترمس.. هؤلاء لا يتأثرون بالفضائيات.. لا يقرأون الصحف والمقالات.. ينتظرون فقط لقمة العيش.. يرتعدون من تهديدات المخابز أكثر من تهديدات الأصابع الرئاسية.. «عاوزين ياكلوا»!.. لا يشغلهم انهيار البورصة، ولا تشغلهم تصفية المخابرات، ولا عزل النائب العام.. لا تلوموهم على زجاجة زيت، ولا كيس سكر.. إنهم رقم صعب فى الديمقراطية! الرئيس يبشر بالنهضة (مرسى التقى الجالية).. مغترب: هل فعلاً النمو زاد؟.. الرئيس: أنا قلت كده فى القمة.. مغترب: لكن الصورة مخيفة؟.. الرئيس: اطمنوا، مصر لن تُفلس!.. مغترب: الاحتياطى تراجع، والاستثمار كمان؟.. الرئيس: الدنيا كده، حبة فوق وحبة تحت!.. مغترب: إمتى هنشوف النهضة؟.. الرئيس: لما نعرف نشتغل!.. مغترب: القرارات فى إيدك.. الرئيس: هنشتغل إزاااى، وهمه قاعدين فى التحرير؟.. مغترب: التحرير اتفتح خلاص.. الرئيس: إحنا اللى فتحناه.. مغترب: يبقى نشتغل؟.. الرئيس: لما نطهّر التحرير أولاً.. مغترب: طب وبعدين؟.. الرئيس: نقعد إحنا بقى فى الميدان (!)