( ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا). بعد النهي عن التبذير, تنتقل الآيات في سورة الإسراء إلي الدعوة إلي الاعتدال في إنفاق المال بأخذ موقف متوازن بين البخل والإسراف, وفي ذلك يقول الحق- سبحانه- ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك... أي: يا أيها الإنسان! لا تكن كالذي شدت يده إلي عنقه فلا تستطيع الأخذ من ماله بها وإعطاء الآخرين. وشد اليد إلي العنق هو مثل ضربه الله- تعالي لكل ممتنع عن الإنفاق في الحقوق التي أوجبها رب العباد في أموال من وسع عليهم الرزق. وفيه نهي عن البخل, وتحقير للبخلاء. وفي اللغة يقال:( غل) الشرطي فلانا( يغله)( غلا) أي: وضع في يديه أو في عنقه( الأغلال) وهي المقابض الجامعة من الحديد. ولذلك فإنه إذا قيل:( غلت) يد فلان إلي عنقه, فهي( مغلولة) أي: أمسكت يده عن الإنفاق كناية عن بخله وشح نفسه. والبخل هو منع ما أوجبه الله- تعالي- من أوجه الإنفاق, وهو ضد الجود والكرم! الذي يدعو إليه الإسلام ويشجع عليه. ولذلك نهي رسول الله- صلي الله عليه وسلم- عن الشح فقال: إياكم والشح, فإنما هلك من كان قبلكم بالشح, أمرهم بالبخل فبخلوا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا, وأمرهم بالفجور ففجروا( أبو داود). وفي المقابل ينهي ربنا- تبارك وتعالي- عن الإسراف فيقول:... ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا أي: لا تبسط يدك بالعطاء كل البسط حتي لا تبقي لنفسك ولا لأهلك شيئا مما وهبك الله- تعالي- من الرزق. وفي ذلك نهي عن التوسع توسعا مفرطا في الإنفاق بشئ من الإسراف فوق الحدود المعقولة والمقبولة حتي يصبح المسرف ملوما عند الله وعند الناس لإسرافه وسوء تدبيره, ويصبح هو في النهاية لائما لنفسه إلي حد الندم والحسرة علي تضييع ماله. و(الإسراف) هو كل سلوك يتجاوز فيه الإنسان حد القصد والاعتدال, خاصة في انفاق المال, أما( التبذير) فهو إنفاق المال في غير ما ينبغي, أي: إتلافه, وهو موقف أشد من الإسراف. لذلك قال- تعالي-... ولا تبسطها كل البسط... و(البسط) في اللغة هو ضد( القبض), ويعني الامتداد ماديا أومعنويا, فإذا قيل:( فلان يده مبسوطه) عبر ذلك عن كثرة إنفاقه المال حتي ليعطي فوق طاقته. وتختتم الآية الكريمة بقوله- تعالي-... فتقعد ملوما محسورا و(المحسور) صفة من( الحسرة) أو من( الحسر). و(الحسرة) هي أشد الندم والتلهف علي الأمر الفائت بشئ من الجزع والحزن و(الحسر) يبقي المسرف في إنفاق المال كالحسير من الدواب التي توقفت عن السير لإنهاك قواها, والنص الكريم يشبه من أنفق كل ماله حتي توقف نشاطه بمن انقطع في سيره بسبب انقطاع مطيته عن السير به. وبذلك فإن الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال تأمر بالتوسط بين البخل والشح من جهة, وبين التبذير والإسراف من جهة أخري, وبذلك يقف المسلم موقف الجود والكرم الذي لا يشوبه شئ من البخل أو من الإسراف, وهو موقف يحبه الله- تعالي- ويحبه رسوله- صلي الله عليه وسلم- ويرضي عنه الناس. فالبخيل الشحيح من أهل المال يبغضه الناس ويلومونه, وكذلك المسرف المبذر الذي يضيع ماله ويترك عياله في حالة من الضياع والعوز. وحب المال والحرص عليه هو فطرة إنسانية, وهو في نفس الوقت قد يكون مظهرا من مظاهر الضعف البشري, ومن هنا كانت ضرورة التوسط في التعامل به دون بخل مذل أو إسراف مخل. فمحبة الإنسان للمال وحرصه عليه لا يعتبر بخلا إذا أخرج حق الله- تعالي- فيه. ولذلك يروي عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قوله: كل مال أديت عنه الزكاة, فليس بكنز, وكل مال لم تؤد زكاته فهو كنز, وإن كان ظاهرا( أخرجه زنجويه). فالمال أوجده الله- تعالي- للوفاء بحاجات الناس, وجعله وسيلة لتقييم جهودهم وممتلكاتهم, وعلي ذلك فلا يجوز اكتسابه إلا بحق,, ولا يجوز إنفاقه إلا في طريق الحق, ولا يجوز اكتنازه أبدا. بمعني عدم إخراج الزكاة فيه. ومن هنا فإن الإمساك بالمال حيث يجب بذله يصبح بخلا به, وإن بذل المال في غير أوجه الحق يصبح تبذيرا له وإسرافا فيه. وبين البخل والإسراف يأتي موقف الجود والكرم, وهو الموقف الذي تدعو إليه الآية الكريمة التي نحن بصددها والتي تعتبر وجها من أوجه الإعجاز التشريعي والأخلاقي والسلوكي في كتاب الله تعالي.