تتضح مكانة الوالدين بالأمر الإلهي ببرهما والإحسان إليهما بعد الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالي وحده, كما قرن سبحانه بين شكره وشكر الوالدين في قوله سبحانه أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير, وتوضح الآيات الكريمة وجوب البر والإحسان للوالدين في مرحلة من أهم مراحل العمر وهي مرحلة الكبر فينهي الله الابن أن يتضجر أو يتبرم من والديه حتي أقل كلمة وهي أف فلا يقول لهما أف ولا ينهرهما ولا يزجرهما بغلظة فيما لا يعجبه منهما بل عليه أن يقول لهما قولا كريما وهو القول الحسن الذي يتسم بالاحترام والتوقير للوالدين. ويلاحظ أن الله تعالي قال: إما يبلغن عندك الكبر وكلمة عندك تشير إلي أن واجب الابن أن يرعي الوالدين عند الكبر والضعف وأن يكون الوالدان في رعايته وكنفه وعنده, فيقوم بخدمتهما وتقديم كل ما يحتاجان إليه. وألا يتركهما في مكان آخر أو استراحة أو دور المسنين إلا عند الضرورة, حيث لا يتمكن من توفير المكان الذي يريحهما, ولسنا ننقص من قيمة دور المسنين, ولكن نقول إذا كان من الممكن أن يقيما في كنف ابنهما كان هذا أفضل وأكمل وأوفق للهدي القرآني: إما يبلغن عندك أي أن يكونا في كنفه ورعايته, وخص مرحلة الكبر, لأنها المرحلة التي يكون الوالدان ضعيفين فيها ويحتاجان إلي المزيد من الرعاية والخدمة والرحمة, وأمر الله بالقول والفعل الحسن فقال وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة فأمر الابن أن يقول لوالديه القول الحسن الذي يشتمل علي التوقير والاحترام, وأن يتواضع لهما بتذلل عليهما, ثم يري بأنه مهما قال وفعل فلن يستطيع أداء ما يجب لأبويه فيكل الجزاء إلي الله أكرم الأكرمين فيدعو الله تعالي أن يرحمهما وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: آمين آمين آمين قيل: يارسول الله علام أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك قل آمين فقلت: آمين ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل آمين فقلت أمين, ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة, قل آمين, فقلت: آمين, رواه الترمذي. ولأهمية بر الوالدين جعل الله برهما مستمرا حتي بعد وفاتهما وذلك بالدعاء لهما والاستغفار لهما وغير ذلك من أمور البر كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بالسند عن أبي أسيد وهو مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من الأنصار فقال: يارسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟ فقال: نعم خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما, وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما, فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما, رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. بل إن المتتبع للهدي النبوي الحكيم يري أن فيه تأكيدا وتفصيلا لما جاء في القرآن الكريم, فأهمية بر الوالدين تتقدم علي كل العبادات بل إن بر الوالدين يوازي الجهاد ويفضل عليه أحيانا وخاصة البر بالأم كما جاء في الحديث عن معاوية بن جاهمة السلمي, أن جاهمة جاء إلي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يارسول الله أردت الغزو, وجئتك أستشيرك فقال: فهل لك من أم؟ قال: نعم قال: فالزمها فإن الجنة عند رجليها. وبعد ذكر بر الوالدين جاء الأمر بإعطاء ذوي القربي حقوقهم وصلة الأرحام والنهي عن التبذير وقد جاء في الحديث: أمك وأباك ثم أدناك أدناك وفي رواية: ثم الأقرب فالأقرب رواه أحمد. وقال صلي الله عليه وسلم: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه رواه مسلم. لقد أمر الله تعالي بإيتاء كل من له قرابة حقه من الإحسان وإعطاء المحتاجين من المساكين وأبناء السبيل, وابن السبيل هو الغريب الذي انقطع به سفره قال تعالي: وآت ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا فكما أمر سبحانه بالإنفاق نهي عن الإسراف فيه بل يكون المنفق غير مبذر ولا مسرف, والتبذير هو إنفاق المال في غير طاعة الله وفي غير حق, قال مجاهد لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: أتي رجل من بني تميم إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إني ذو مال كثير, وذو أهل, وولد وحاضره فأخبرني كيف أنفق؟ وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك إن كان, فإنه طهرة تطهرك, وتصل أقرباءك, وتعرف حق السائل والجار والمسكين فقال: يارسول الله أقلل لي, قال وآت ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا فقال حسبي يارسول الله إذا أديت الزكاة إلي رسولك فقد برئت منها إلي الله وإلي رسوله؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: نعم إذا أديتها إلي رسولي فقد برئت منها ولك أجرها وإثمها علي من بدلها رواه أحمد ثم وضح سبحانه شأن المبذرين فقال: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين أي في تبذيرهم وارتكابهم للمعاصي وجملة المبذرين كانوا إخوان الشياطين تعليل للنهي السابق عن التبذير وكان الشيطان لربه كفورا أي كان جحودا لأنه أنكر فضل صاحب الفضل وأنكر نعمة المنعم ولم يقابلها بالطاعة. وأما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا أي إذا توجه إليك بعض أقاربك وسألوك, ولم تجد ما تنفقه عليهم فأعرضت عنهم لعدم وجود ما تنفقه فقل لهم قولا ميسورا بأن تعدهم بوعد فيه لين وسهولة إذا رزقك الله أن تصلهم, فالكلمة الطيبة صدقة. ثم أمر الله تعالي بالاقتصاد في المعيشة وداعيا إلي المنهج الوسط في الإنفاق فلا يبخل ولا يسرف: ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا, إنه يشبه البخيل في عدم مد يده بمن حبست يده وشدت إلي عنقه فلا يستطيع أن يمدها بالإنفاق وهذا تمثيل للبخيل أي لا تكن بخيلا مناعا للخير, كما نهي عن الإسراف وبسط اليد فتقعد ملوما محسورا أي تصير مذموما من الناس منقطعا من المال إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعبادة خبيرا بصيرا أي يوسع علي من يشاء ويضيق علي من يشاء. لأنه سبحانه وتعالي أعلم بمصالح العباد, وهو القابض والباسط ولقد جاء في السنة النبوية الشريفة مثل البخيل والمنفق عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلي ترافيهما, فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت علي جلده حتي تخفي بنانه وتعفو أثره. وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة منها مكانها, فهو يوسعها فلا تسع, رواه البخاري ومسلم. وللمنفق منزلته ومكانته إنه يحظي بدعاء الملك له كل يوم بأن يخلف الله عليه علي عكس البخيل الممسك. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا, ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا رواه البخاري ومسلم.وأوضح الرسول صلي الله عليه وسلم أن المال لا ينقص بالصدقة, وحذر الرسول صلي الله عليه وسلم من الشح وهو أشد البخل وبين خطورته وأنه يصل بصاحبه إلي الفجور عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا, وأمرهم بالفجور ففجروا رواه أحمد